الجزء الثاني

الفصل الثالث

خطة لشن غارة على الجزائر

في الجلسة الأخيرة في باريس التي جمعت بين ضباط الموساد جون وإبراهيم سلمان، وبعد أن شرح الأول للثاني تفاصيل العمل وقام بتدريبه على توفير أمنه الشخصي واستعمال الحبر السري ووسائل الاتصال، تخلل الجلسة حديث عام حول الجاسوس الأمريكي – الإسرائيلي جوناثان بولارد .

Ø     فقد سأله إبراهيم : " كيف تتجسسون على الولايات المتحدة وهى الحليف الرئيسي لإسرائيل ؟ "

Ø     فقال جون : " الخطأ الذي يقع فيه العرب باستمرار هو الاعتقاد السائد بينهم بأن لا فرق بين إسرائيل وأمريكا . والحقيقة عكس ذلك تماماً . صحيح أن علاقاتنا مع أمريكا قوية جداً لكن هتاك أمور لا يراها العرب ونعرفها نحن . فعلى الغم من التنسيق الكامل بلين المخابرات المركزية والموساد  فنحن لا نثق بهذا التنسيق ولا في المعلومات التي نحصل عليها من الأمريكيين في هذا الإطار، لأننا نثق فقط بالمعلومات التي نحصل عليها بوسائلنا الخاصة، حتى من داخل أمريكا . والهامش الواسع الذي يتيحه لنا التنسيق والتعاون لا يرضينا. ففي كثير من الأحيان تقتضي مصلحة إسرائيل إعطاء الأمريكيين معلومات غير صحيحة في إطار التبادل على هذا الصعيد ونتوقع في المقابل أن يكون جزء من المعلومات التي نحصل عليها منهم خاضعاً للاعتبار ذاته " .

Ø     ثم أضاف : " مثلا قضية صاحبك أبو العباس . فلو تركنا الأمر لتتصرف به أمريكا بمفردها لما حصل شئ مما تراه وتسمعه .كما يجب أن تفهم أمرا مهما وهو أن نفوذنا في الولايات المتحدة كبير جدا ولا يمكن أن نسمح لأحد داخلها في خارجها بان يزعزع هذا النفوذ، لان استمرار وجود إسرائيل قوية مرتبط بالولايات المتحدة " .

Ø     ثم انتقل جون إلى موضوع المهمة قائلا : " أول ما ستقوم به تحيد موعد سفر أبو العباس الباقي علينا . و أن كل شئ بثمنه ".

Ø     فقال إبراهيم ممازحا : " المهم أن لا تنسوا انتم ذلك لأنني لن أنساه " .

Ø     رد جون : " لا تخف . قائلاً تعرفنا، سوف تحصل على مبالغ لم تحلم بها في حياتك، المهم أن تعمل بصدق واخلاص معنا " .

عندئذ كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل .

Ø     فقال إبراهيم : " يجب أن اخرج الآن لا حاول الحجز على أول طائرة " .

Ø     قهقه جون وقال : " لقد رتبنا كل شئ . فهناك حجز باسمك على طائرة الساعة الثانية بعد الظهر غدا " .

Ø     وأضاف : " لا تنس أن تكون بعد شهر عندي هنا في باريس " .

Ø     قال إبراهيم : " سأحاول جهدي " .

Ø     رد جون : " لا يوجد شئ في عملنا اسمه " سأحاول " . هناك " موافق " . يجب أن تتعلم ذلك .

Ø     قال إبراهيم : " حتى أتمكن من الحصول على إجازة من العمل ، سأحاول أن أحصل على إجازة مرضية رد جون : إجازة مرضية إجازة غير مرضية ، هذا شغلك . المهم أن تكون عندي هنا.

Ø     قال إبراهيم : " موافق " .

Ø     فرد جون : " بدأت تفهم العمل " .

Ø     نهض إبراهيم وحمل المبالغ المادية والأوراق والأدوات والأسئلة

Ø     ثم قال : " هل ستوصلني إلى الفندق ؟ "

Ø     قال جون : " كلا . ومنذ الآن لن يشاهدنا أحد معاً . يجب أن تنزل وحدك وتتبع الإجراءات الأمنية التي دربتك عليها، وإلا فما فائدة هذه الجلسة الطويلة ؟ هل تعتقد أنني أردت تسليتك ؟ ! "

فحمل إبراهيم حقيبته وتوجه نحو الباب وإذا بجون يقول له : " قف مكانك " . فتوقف والتفت إلى الوراء فتقدم جون نحو الباب ثم أصغى السمع لعل هناك أحد كان يصعد الدرج . ثم نظر في " العين السحرية " .

وعندما تأكد من عدم وجود أي شخص فتح الباب بهدوء

Ø     وقال : " الآن باستطاعتك أن تخرج " .

خرج إبراهيم من الشقة إلى الشارع وسار مسافة على قدميه، وأخذ يتذكر توصية جون بألا يصعد أبدا في سيارة أجرة واقفة فقد تكون في انتظاره ويقودها رجال المخابرات، وبأن لا يوقف تكسى يقترب منه، بل يفوت عدة سيارات قبل أن يوقف إحداهما . وقال ببعض الإجراءات دون أن يكملها فتذكر كلام أبو محمد الذي كانت عباراته طوال الجلسة ترن في أذنيه : "ويجب أن تنفذ كل ما يطلبونه منك، كما يجب أن تنفذ كلامي حرفياً " . ولكنه كان يحس نفسه منهكاً فانطلق إلى الفندق وهو يشعر بصداع مؤلم كان رأسه أصبح في حجم برج ايفيل .

خلفيات الصراع

في اليوم التالي كان إبراهيم يجلس في مقعده في الطائرة الفرنسية عائداً إلى تونس حيث أبو محمد . وراح يستعيد شريط الرحلة ، بدءاً بلقائه مع سوزان في " فندق هيلتون " وصولاً إلى سفره إلى باريس ولقائه مع ضابط " الموساد " جون ، وكانت الأحداث تمر بسرعة فائقة، حتى أنه لم يجد الوقت الكافي لاستيعاب ما يجرى . فقد كان في حالة هجوم واندفاع، ووضع نصب عينيه النجاح . وأحس بالسعادة والفرح لاعتقاده أنه نجح في المهمة التي كلفه بها أبو محمد، وتذكر في الوقت نفسه الدوامة التي دخلها . وشعر أنه كبر عشرين عاماً . وهذه الأيام التي قضاها في باريس بدت وكأنها سنوات . وتذكر صور عائلته فعلت وجهه مسحة من الحزن والألم . فإذا عرفت الموساد أنه يكذب عليها فهل تنفذ تهديداتها ؟ وتذكر أخاه الذي استشهد في 1982 فامتلأ قلبه بالحماس والاندفاع، فقد منحه استشهاد أخيه دفعاً معنوياً رأى معه تهديدات جون فارغة وتافهة ولا تستحق حتى أن يلتفت إليها .

قرر أن يواصل العمل، وهو لم يكن جديداً على العمل النضالي . فقد قاتل في بيوت ضد الإسرائيليين وعمل في عدة مواقع في منظمة التحرير . والتغير البطيء الذي طرأ أنه انتقل الآن إلى الخطوط الخلفية للعدو ، فقد أصبح وجهاً لوجه مع " الموساد " ودخل كواليس الصراع الخفي، وعليه أن يتأقلم مع الواقع الجديد .

تنبه إلى صوت المضيفة وهى تطلب ربط الأحزمة . ولم يشعر بالرحلة إطلاقا، فقد كان يعيش في عالم آخر . وكانت عشرات الأسئلة تتلاطم في ذهنه كأمواج البحر فتتكسر وتعود لتزمجر من جديد . وبدأ وكأن معركة كاملة يدور رحاها بين جهازي الموساد والمخابرات الفلسطينية، لكن ساحتها كانت بالنسبة إليه في رأسه وعقله وجسمه ومشاعره . فهل سيتحمل هذا الصراع الرهيب ؟ .

راح أبو محمد يتفحص ورقة الأسئلة والحقيبة والمبلغ المالي، ثم استمع إلى الرزالية كاملة بالتفصيل منذ سفره حتى عودته، وبعد أن انتهى من الحديث

Ø     قال إبراهيم : " هل تعتقد أنني نجحت ؟

Ø     رد أبو محمد : الآن لا أستطيع الحكم، ويجب أن تكتب لي كل رحلتك بأدق التفاصيل حتى ملابس جون والشقة ونوع السيارات التي استخدموها وأرقامها، ويجب عليك أن تتذكر كل شئ .

Ø     ثم صمت قليلاً وتابع : لقد قلت لك أنه يجب أن تنفذ تعليماتهم بدقة كما يجب أن تنفذ تعليماتي . أليس كذلك ؟ ودهش إبراهيم من هذه اللهجة فقال : لقد فعلت كل ما طلبته منى . فنظر إليه أبو محمد بعينين كالصقر . ثم قال : ليلة اجتماعك معه في الشقة لماذا لم تتبع كل كلامه ؟ لقد خرجت إلى الفندق مباشرة ، فصعق الشاب من هذا الحديث وقال : كيف عرفت ذلك ؟

Ø     فرد عليه أبو محمد : يجب أن تفهم أنهم كانوا يراقبونك كما راقبتك أنا . وكانت التقارير تصلني يومياً إلى هنا ، وكان يجب أن لا أقول لك هذا الكلام ، لكنني فعلت ذلك حتى لا تقع مرة أخرى في خطأ أكبر في مرات لاحقة .

مراحل سريعة

كان تقييم هذه المرحلة في المخابرات الفلسطينية غير واضح، وكانت المسألة تحمل عدة تفسيرات ، فــ الموساد أسرعت كثيراً في تجنيد الشاب، وهذا يعود إما إلى نهاية تحضر عملية خطيرة وهى بحاجة ماسة إلى معلومات من نوعية خاصة لا يمنكن أن يوفرها إلا إبراهيم، وبالتالي تكون قد بلغت الطعم أو أنها فهمت اللعبة وكشفته وبالتالي فان كل ما يحمله إبراهيم من مهمات وهم وتضليل .

إلا أن الاحتمال الأخير لم يكن له ما يؤكده، خصوصاً أن جون كان يحرق المراحل . فما حصل عليه إبراهيم في رحلته كان من المفروض أن يحصل عليه بعد ما لا يقل عن شهرين من بداية تجنيده . إضافة إلى نوعية الاحتياجات التي طلبتها الموساد منه، إذ أرسلت معه أسئلة اختباريه كانت الأجوبة عنها معروفة مسبقاً لدى  الموساد  ودست بين هذه الأسئلة الاحتياجات الحقيقية .

وكانت أهم الأسئلة تدور حول مصادر تمويل جبهة التحرير الفلسطينية ، وحجم الأموال التي تحصل عليها ، وهل هناك علاقات بين الجبهة والحكومة التونسية ؟ وهل هناك عمليات إرهابية محتملة ضد إسرائيل ؟ وفى الوقت نفسه طلبت الموساد تزويدها بكل ما يحصل عليه إبراهيم من معلومات إضافية .

فضلاً عمن هو ضابط الاتصال بين الجبهة والحكومة العراقية . وهل كان رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات على علم مسبق بعملية " أكيلي لاورو " إضافة إلى أسئلة اختباريه عديدة . لكن أهم ما ورد وجعل الموساد تسرع إلى هذه الدرجة في تجنيده هو أين يقع مكان إقامة أبو العباس بشكل محدد ودقيق، وما الحراسات القائمة حول وعدد الرجال ونوع الأسلحة، وهل يلبسون سترات واقية من الرصاص إلى جانب تنقلاته ومواعيد سفره، ومكتبه وعدد الغرف فيه والأشخاص الذين يترددون على هذا المكتب يومياً .

وعدد الأشخاص الذين يبقون في المكتب ليلاً والمكان المحدد الذي ينام فيه الحراس. وكان واضحاً أن المخابرات الإسرائيلية تخطط لاغتيال هذا الرجل أما عن طريق عملية  كوماندوس داخل مكتبه أو منزله ، أو بواسطة اختطاف طائرة قد يكون مسافراً فيها . وفي الوقت نفسه أعلن وزير خارجية أمريكا جورج شولتز عن جائزة مالية قدرها 250000 مايتان وخمسون ألف دولار لمن يساعد الحكومة الأمريكية في القبض على أبو العباس لتقديمه إلى المحاكمة في محكمة أمريكية وبدأ التنافس شديداً بين المخابرات المركزية والإسرائيلية للوصول إلى الرجل . واستغلت إسرائيل هذه الحملة لتدبير اغتياله هو وغيره من المسؤولين الفلسطينيين .

وخلال كانون الأول1985 سافر أبو محمد إلى إحدى دول أوروبا الشرقية للقاء عدد من المسؤولين السوريين في إطار الحوار بين منظمة التحرير الفلسطينية ودمشق إلا أن هذه الحوارات تعثرت وفشلت سياسياً . مع ذلك تواصلت الحوارات والاتصالات على مستوى الأجهزة ليقتصر التنسيق على بعض الجوانب الأمنية . وبعد عودة أبو محمد ، استعد إبراهيم للسفر حاملاً معه الأجوبة والمعلومات التي زوده بها الأول وبينما أرسل قسم من هذه الأجوبة بوسائل الاتصال المتفق عليها، بتوجيه من نائب أبو محمد في هذه العملية الضابط حسين الذي زوده بتعليمات جديدة للرحلة . وكان أبو محمد قد أبلغ أبو العباس بفحوى المعلومات دون أن يعلم الأخير مصدر هذه المعلومات بطبيعة الحال .

وفى 25 كانون الأول سافر إبراهيم إلى باريس، وفور وصوله اتصل هاتفياً بجون وترك له خبراً . وفي اليوم التالي اتصل جون وحدد لإبراهيم موعداً تمام الساعة السابعة من مساء اليوم التالي . وفى هذا الموعد الذي صادف 27 كانون الأول  1986 كان إبراهيم يطرق باب الشقة بعد قام بالإجراءات الأمنية المطلوبة . وبعد ثوان فتح الباب وأطل جون باسماً.

Ø     وقال همساً : تفضل ادخل .

ودخل الشاب وأغلق الباب خلفه ثم صافح ضابط  الموساد وتوجها إلى قاعة الجلوس . وبعد السؤال عن الصحة والأحوال، بدأ جون يسأل إبراهيم عن رحلته وهل ضايقه أحد في المطار ؟ وهل أتم العمل بشكل جيد ، وهل شك أحد بعلاقته مع الموساد وكانت الإجابات نفياً . وبدأ جون كئيباً، فسأله إبراهيم عن السبب فقال : ألم تسمع الأخبار ؟ رد : كلا ، ماذا حصل ؟ قال لقد قامت مجموعة إرهابية اليوم بإطلاق النار على المسافرين في مطار فيينا وروما وقتل عدد كبير من المدنيين .

ذهل الشاب لهذا الخبر المفاجئ وقال : لم أسمع الأخبار . من الذي نفذ العملية، من الذي نفذ العملية

Ø     فرد جون : مهمتك أن تعرف الجهة التي تقف وراء العملية ، وهو أمر مهم للغاية ، وأية تفاصيل تحصل عليها ومهما كانت بسيطة ، أبلغني بها.

ثم استعرضا المعلومات التي أحضرها معه، واتفقا على اللقاء في الثامنة من مساء اليوم التالي .

وقد كانت عملية مطار فيينا وروما بداية المرحلة الجديدة من العنف التي أعقبت الغارة الإسرائيلية على حمام الشط في تونس، وما تبعها في تشرين الأول من تصعيد . وقد بدأت تصورات أبو محمد عن أن المرحلة تحققت وأثبتت الأحداث فهم ما بعد وضوح رؤيته السياسية والأمنية . على أن هذه العملية أسفرت عن مقتل 14 شخصاً واصابة 68 بجراح في مطار ميتشينو بالإضافة إلى مقتل 3 أشخاص واصابة 47بجراح في مطار شفتات في فيينا . واستنكرت منظمة التحرير العملية في حين أعلن أبو نضال مسئوليته عنها من خلال اتصال هاتفي أجراه مجهول ينتمي إلى جماعة أبو نضال ( فتح المجلس الثوري ) في ملقا
( جنوب أسباني ) . وفي الوقت نفسه قام عملاء الموساد في قبرص بمحاولة اغتيال سمير أبو غزالة ممثل منظمة التحرير في قبرص عندما حاول هؤلاء العملاء تفخيخ سيارته . وقد اكتشف أمر المجموعة أثناء قيامها بالعملية فأطلقن النار عليه ولاذت بالفرار .

سأل ضابط  الموساد إبراهيم :

Ø     هل التقيت أبو العباس خلال الفترة الماضية ؟

Ø     قال إبراهيم : كلا ولم أشاهده منذ عملية " أكيلي لاورو " إذ بت أرافق شخصيات أخرى بين الحين والآخر، ومعظم عملي أصبح في المكتب .

Ø     علق جون : هذا جيد ، ويعطيك حرية حركة أكثر، ولكنه لا يعفيك من المسؤولية .

Ø     دهش الفتى من هذه اللهجة المفاجئة وقال : ماذا تقصد ؟

Ø     قال جون : إننا ندفع لك مبالغ كبيرة وتوجد رسالة خاصة بك من تل أبيب . ثم أضاف : هل تعرف أحداً في معسكر تبسة في الجزائر ؟

Ø     صمت إبراهيم قليلاً وقال : نعم ، أعرف بعض الأصدقاء من المقاتلين .

Ø     وقال جون : جيد .

Ø     رد إبراهيم لم أفهم .

Ø     قال جون : نريدك أن تسافر إلى تبسة .