جميل السيِّد يتذكر 

الجزء السادس

محاولة تفجير السفارة الايطالية في بيروت العام الماضي احدثت ضجة حولها وشكّك كثيرون في صحتها، هذا عدا التفاعلات المرتبطة بموقوفي مجدل عنجر، هل كانت كلها تركيبة لتعويم الوضع السياسي للحكم في حينه؟

- في لبنان كل شيء يمر بنظرية المؤامرة. نعيش في مناخ فقدان الثقة داخل الدولة نفسها وبين الدولة وخارجها. الكل يشكك بالكل وتختلط الحقيقة بالكذبة ويضيع الناس.

قضية السفارة الايطالية لم تبدأ من لبنان، بل من ايطاليا. في صيف 2004 حضر وفد امني ايطالي رفيع الى لبنان في طائرة خاصة حاملاً معه معلومات عن محاولة وشيكة لتفجير السفارة الايطالية في بيروت بكمية 300 كلغ من المتفجرات. وكانت في حوزة الوفد صورة لأحد المشتبه بهم أحمد سليم ميقاتي، التقطتها له كاميرا الحراسة عند مدخل السفارة. الايطاليون كانوا غير متأكدين من ان الصورة لميقاتي وطلبوا مساعدة السلطات اللبنانية للتعريف عنه. ميقاتي كان مطلوباً من السلطات اللبنانية بعد احداث الضنية في الشمال عام 2000 والتي شهدت اشتباكات بين الجيش اللبناني ومجموعة اصولية مسلحة وقع بنتيجتها 14 قتيلاً للجيش ومن المسلحين واوقف بعضهم. لميقاتي كان فاراً الى مخيم عين الحلوة قرب صيدا ولم يكن مفترضاً فيه ان يكون خارج المخيم. احيل الملف الى قوى الامن الداخلي للتنسيق مع الامن الايطالي الذي أفاد ان لديه مصدراً مهماً يستطيع استدراج ميقاتي الى منطقة قريبة من حرج بيروت. وضعت خطة من قبل قوى الامن الداخلي بالتنسيق مع المصدر الايطالي واوقف ميقاتي بعد 48 ساعة من وصول الوفد الايطالي، وبالطبع بوشرت التحقيقات باشراف القضاء المختص وقامت قوى الامن الداخلي بمداهمات في اماكن مختلفة ومنها في بلدة مجدل عنجر البقاع حيث صادرت بعض الاسلحة والمتفجرات واوقفت بعض الاشخاص وتوفي احدهم خلال مرحلة التحقيق ويدعى اسماعيل الخطيب.

في تلك الفترة كانت المشاحنات السياسية في البلاد على اشدها، كانت حرب التمديد قد فتحت على مصراعيها، كان الامن وانجازاته مصنفاً في خانة رئيس الجمهورية، وأي انجاز من هذا النوع كان سيعتبر رصيداً لصالح التمديد. الوفاة المؤسفة لاسماعيل الخطيب خلال التحقيق معه في نظارة قوى الامن الداخلي، شكلت الشرارة السياسية التي انطلقت منها حملة التشكيك بجدية محاولة التفجير وصولاً الى الطعن بممارسات قوى الامن واصول التحقيق واساليب التعذيب وغيرها، الى ان اتخذ الموضوع طابعاً طائفياً اسفر عن جملة احتجاجات اعلامية تطور بعضها الى تظاهرات وقطع طرقات في البلدة المذكورة.

المهم ان الوفد الامني الايطالي غادر لبنان شاكراً بعد تلك التوقيفات، معتبراً بأن المحاولة ضد السفارة قد احبطت، ثم صدر بعدها بيان رسمي عن وزارة الدفاع الايطالية تحدث عن المحاولة واكدها وشكر السلطات اللبنانية والسورية على تعاونها.

اذاً القصة حقيقية وغير مركبة ومصدرها من خارج لبنان ومن خارج السلطات الامنية اللبنانية، لكنها جاءت في توقيت سياسي سيئ وعقّدتها وفاة الموقوف اسماعيل الخطيب فاختلط الحابل بالنابل، ودخلت القضية في بازار التجاذبات والاتهامات السياسية، ولا تزال حتى هذه الساعة، فيما دفع ثمنها بعض ضباط قوى الامن الداخلي وافرج عن بعض الموقوفين وثمة وعود سياسية رافقت الانتخابات النيابية الاخيرة للافراج عمن تبقى منهم قريباً.

ما هو سر قوتك؟

- في لبنان ليس هناك قوي دائم ولا ضعيف دائم، القوة والضعف تحددهما الظروف. هناك من تخدمه الظروف. ماذا يعني ان تكون موظفاً قوياً؟ هل تنظم ثورة إذا نقلوك أو تقوم بانتفاضة إذا صدر مرسوم لا يعجبك. لعل سبب قوتي هو انني جاهز للخسارة عند اللزوم. لا أحب الخسارة لكنني جاهز لها. معظم الذين تعاطيت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. أنا أذهب حتى النهاية وغيري يعود من منتصف الطريق. هذا الوضع اعطى انطباعاً بأنني قوي. أكذب إذا قلت انني أحب الخسارة لكنني جاهز لتقبلها عند اللزوم. ما حصل في وضعي الآن يعتبر خسارة. كنت مقتنعاً بان الطريق ستؤدي الى هذا المكان. حضّرت خروجي من منصبي في بيان ومؤتمر صحافي وكتاب استقالة. أنا واقعي وأقبل النتائج.

هل شعرت بدنو موعد استقالتك لدى تبلغك نبأ اغتيال الرئيس الحريري؟

- في تلك اللحظة لا يرد في ذهنك أية أمور سوى أن كارثة وقعت في البلد، أما شعوري الشخصي فكان انني أصبت ايضاً، ليس في الوظيفة بل في المعنويات.

متى استنتجت ان عليك ان تستقيل؟ هل بعد اختيار العميد السابق في الأمن العام حسن السبع وزيراً للداخلية؟

- اطلالتي الصحافية كانت قبل تعيينه وأشرت فيها الى ذلك، لا علاقة لقدومه باستقالتي، كانت الامور تسير في هذا الاتجاه حتى في ظل حكومة الرئيس عمر كرامي.

بدوت فيها (الإطلالة) عصبياً ومنفعلاً؟

- نعم لأنني كنت أتحدث عن ألم. غسل الجميع أيديهم بدم رفيق الحريري وبالانسحاب السوري، ونسوا الجرائم التي ارتكبوها بحق البلد في الادارة والوزارات والصناديق والفساد وانهالوا بالاتهامات على النظام الأمني. أنا جزء من هذا النظام. أنا أقبل ان ينشروا وقائع ويحددوا الاسماء ويوجهوا اتهامات لا ان يتهموا بالعموميات لتجهيل الفاعل ورمي الشبهة على الجميع من دون استثناء. لو قالوا الى من وجهت الاتهامات في ما يسمونه النظام الأمني لما احتجّيت. لكن ان يجهّلوا الفاعل ويحمّلوا النظام الأمني مسؤولية الفساد والانهيار، لا أقبل. أنا أتحدى هؤلاء ان يكشفوا كل الملفات. على مدى 37 سنة من حياتي العسكرية والأمنية ليست لي أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة. لهذا قلت لهم انكم توظفون دم الرئيس الحريري للتستر على ارتكاباتكم.

أعلى الصفحة

لماذا ذهبت الى الكويت لتقديم شكوى هناك ضد بعض الاتهامات، ولم تقدمّها في لبنان، أليس ذلك غريباً عدم ثقتك بالقضاء اللبناني؟

- لم تكن القضية عدم ثقة بالقضاء اللبناني. كنت لا أزال مديراً عاماً للامن العام، وكتبت صحيفة «السياسة» الكويتية بعد ايام من اغتيال الرئيس الحريري مقالاً اوردت فيه اسمي مع مجموعة من الضباط السوريين ضمن رواية مختلقة وكاذبة عن اتهامنا بالتفجير. ونظراً الى المشاعر الشعبية المرتبطة بالاغتيال وما رافقه من اتهامات سياسية وضجة اعلامية، فقد اساء خبر «السياسة» الكويتية إليّ بشكل كبير، وكنت امام خيارين: إمّا تقديم الدعوى في لبنان وسيقولون عندها انني سأستعمل نفوذي لدى القضاء اللبناني لمصلحتي، وإمّا ان اذهب الى عقر دار احمد الجارالله وصحيفته واقدمها هناك ليكون المدعى عليه في وضع أفضل مني امام قضاء بلاده، ففضلت الذهاب الى الكويت ووكّلت المحامي الكبير الاستاذ عبد الحميد الصراف الذي قبل التوكيل. وحتى الآن اصبح لدينا ضد الجارالله وصحيفته ست شكاوى في المحاكم الكويتية بُوشر بالنظر بها، وسأتابعها حتى النهاية ولو بقي من عمري نهار واحد. اريد ان يفهم احمد الجارالله بأن الاعتداء على كرامات الناس واعراضها لن يمر من دون عقاب قانوني مهما طال الزمن، حتى ولو برأته المحكمة أخيراً من تهمة التشهير والقذف في بعض من الدعاوى الستة التي قدّمتها ضده في القضاء الكويتي، فإنني متابع للنهاية. واذا برّأه كلياً القضاء الكويتي، فانني سأدرس الطريقة القانونية لمقاضاته لدى القضاء البريطاني. لن أتوقف عن ملاحقته لأنه سبّب أذى معنوياً ومادّياً وهو يتجاهل حجم الضرر الذي أحدثه. مطلوب من الجارالله اعتذار علني بحجم الضرر.

قيل انك تقدمت بدعاوى أخرى في لبنان؟

- عندما كثرت اتهامات السياسيين ضد الاجهزة الامنية بحادثة الاغتيال، لم يسمِّ اي منهم مسؤولاً امنياً بل اكتفوا جميعاً باتهام الاجهزة من دون تسمية. ولما كنت احد رؤساء تلك الاجهزة فقد اعتبرت نفسي معنياً باتهاماتهم، وبدلاً من ان أدفن رأسي في الرمل معتبراً انهم لم يسمّوني، بادرت الى جمع كل تصريحاتهم وارسلت كتاباً مرفقاً بها الى النيابة العامة التمييزية طالباً استدعاءهم والاستماع اليهم ومبدياً استعدادي للرد ومحتفظاً بحق الملاحقة القانونية بالافتراء. الشيء نفسه فعلته مع حركة اليسار الديمقراطي وأمين سرّها الياس عطاالله اللذين أقمت دعوى ضدهما كونهما تطرّقا الى تسميتي في حادث اغتيال الصحافي سمير قصير. الياس عطاالله اعتدى عليّ بهذا الاتهام وسأسعى حتى النهاية كي يدفع ثمن فعلته بالقضاء. هذا الشخص يستطيع أن يسوق اتهامات سياسية عامة ولا يحق له ان يوّجه اتهاماً جرمياً مباشراً ضد أحد.

بماذا شعرت أمام عائلتك حين رأيت صورتك مرفوعة في تظاهرة المليون ومعها اتهامات ومطالبة بإقالتك؟ هل شعرت أنك مكروه في البلد؟

- حين وضعت الصور كنا قد علمنا ان عدة أشخاص بعضهم من «تيار المستقبل» قاموا بهذا العمل. مشهد الصور بحد ذاته جارح. أنا شخصياً اعتبرتها تعدياً. لكن في المناخ العاطفي الجارف في البلد تحدث أشياء من هذا النوع. الصور كانت محدودة لكن الاعلام أبرزها.

أعلى الصفحة

هل شعرت بالخوف حينها؟

- لماذا أخاف؟ عندما دخلت الى الجيش في 1968 اعتبرت الخطر جزءاً من حياتي. عندما انتقلت الى عالم الأمن صار الخطر أكثر حضوراً. لا أحب العيش في خطر، لكن طبيعة بعض المسؤوليات تضعك في الواجهة وتخلق لك أحياناً اعداء لا تعرفهم ولم تسء اليهم.

هل حاولت الاتصال بعائلة الحريري بعد الاغتيال؟

- قمت بواجب التعزية بعد المأتم، زرت قريطم كما فعل الجميع في تلك المرحلة.

هل سمعت كلاماً غير ودي؟

- لا. أكرر مرة أخرى لا شعور بالذنب لدي، لكن هناك شعور بالإصابة المعنويّة كمسؤول أمني. لماذا لا أذهب؟ طبعاً في الأمن تشعر بعد حادث من هذا النوع أنك في موقف ضعف حتى ولو لم يكن أمن الشخص الذي استُهدف من مسؤوليتك المباشرة.

هل بلغك ان دولاً عربية أوصت المسؤولين السوريين قبل 14 شباط (فبراير) بالاهتمام بأمن الحريري؟

- لا. قرأت هذه المسائل في الاعلام بعد وقوع الجريمة.

ألم تلفتكم جهات اجنبية الى اخطار محتملة ضد الحريري؟

- سبق وأجبت عن هذا السؤال، لم يطرح معنا شيء من هذا النوع. نحن قمنا بلفت نظر السفراء ومبعوث الامين العام للامم المتحدة السيد تيري رود لارسن الى ان القرار 1559 ينقل البلد من موقع الى آخر ويلغي الاستراتيجية التي قام عليها الامن والاستقرار وانهم بالتالي يدفعون بلبنان نحو الخطر والمجهول.

بالنسبة الى استدراك حصول جريمة كبرى من نوع احداث 11 ايلول او جريمة اغتيال الرئيس الحريري فان الاستدراك يكون بمنتهى الصعوبة بالنظر الى حجم السرية التي تحيط عادة بالتحضيرات لهكذا جرائم. لذلك يكون الامن بحاجة لصدفة أو حظ. الأمن عمل يومي ومضنٍ تخدمه الصدفة. احياناً تعمل ليلاً نهاراً ولا تجيء الصدفة. صحيح انه بمقدار ما تعمل تكثر الصدف ولكن ليس بالضرورة ان تتوافر الصدفة في كل مرة، وأحياناً تمر امامك ولا تلتقطها واحياناً تكون محجوبة بشعرة.

أعلى الصفحة

فور وقوع الجريمة هل تداول قادة الاجهزة الأمنية في موضوع الاستقالة؟

- لم يحصل اجتماع من هذا النوع.

ألم يقل مدير الاستخبارات في الجيش العميد ريمون عازار انه راغب في الاستقالة؟

- في مرحلة لاحقة وبعد المؤتمر الصحافي الذي قلت فيه اذا كانت المسألة سياسية فنحن نغادر مع سياسة، إربحوا في الانتخابات ونغادر نحن. أما إذا كانت المسألة جريمة فنحن نذهب الى المحاكمة، لكننا لا نستقيل تحت وطأة الجريمة.

ولماذا استقلت إذاً؟

- عندما جاءت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كان واضحاً انها التزمت برنامجاً عرف قبل بيانها الوزاري ومن ضمنه إقالة رؤساء الاجهزة الأمنية. أنا اعتبرت ان روح الحكومة هي روح ما بعد الانتخابات وليس روح ما قبلها. لهذا قلت في كتاب الاستقالة انني اعتبر ان الحكومة الجديدة شكلت كما لو ان المعارضة فازت في الانتخابات قبل حصولها لهذا استقيل. الخيار الآخر كان ان انتظر ان يضعوني في التصرف وهذا قصاص رفضته مسبقاً.

لكنك ذهبت الى رئيس الحكومة الجديدة؟

السيد (الى اليمين) أثناء فترة التدريب العسكري في مخيم بيت الدين عام 1967. - اتصل رئيس الحكومة، وبحكم معرفة بيني وبينه عمرها سنوات. طلب مني ان اقترح مخرجاً، وقال ان الحكومة ستكون مستعدة للسير فيه. قلت له: «هناك مخرج، إذا كان وجودنا يزعج لجنة التحقيق أنا أرى ان نزاح خلال فترة وجود اللجنة ونعود بعد انتهاء عملها على ألا يعود من تثبت ادانته. طلب مني صيغة فاقترحت هذه. قال الرئيس ميقاتي: «نلتزم بها». في الوقت نفسه وبحكم معرفتي بما يجري توقعت ألا يستطيعوا الصمود على هذه الصيغة في مجلس الوزراء.

في اليوم التالي غادر الرئيس ميقاتي مع الرئيس لحود الى روما. احتج وزير الداخلية على الصيغة التي وضعت بيني وبين رئيس الحكومة، لم يقل الرئيس ميقاتي انه هو الذي اتصل وطلب مني صيغة. ثم انه من أيام الرئيس الحريري يتم استقبال موظفين، لكن الرئيس ميقاتي وبعد احتجاج الوزير اكتفى بالقول: «ونحن ايضاً نصر على التراتبية». إذاً لم يستطع ميقاتي احتمال زيارة كان السبب في حدوثها فهل يستطيع احتمال صيغة في مجلس الوزراء.

الانسان يقطع الطريق على الاهانة المقتربة ولا ينتظر كي تمارس في حقه. اعتبرت الموضوع منتهياً ووضعت استقالتي وقلت فيها «لما كان رئيس الحكومة بادر مشكوراً الى استدعائي وطلب صيغة»، غادرت بكرامتي ولجنة التحقيق موجودة، وانا جاهز.

أعلى الصفحة

مرير ان تكون في التقاعد، وأنت في الخامسة والخمسين، أليس كذلك؟

- عملت 37 سنة من دون انقطاع، وأعتقد بأن المسألة ليست مسألة العمر الذي نتقاعد فيه. 37 سنة عمل، منها 27 سنة في الأمن، وكل يوم بالأمن يوازي ثلاثة ايام عادية، هذا يعني انني عملت مئة سنة، وصار لازم راحة.

أليس لديك مرارة؟

- لا مرارة لدي بالنسبة الى ترك الوظيفة. لدي مرارة بسبب الظروف التي واكبت الموضوع والتي كانت مبنية على اختبار قوة سياسي وليس على حقائق. أقبل كل شيء فيه منطق، نحن في النهاية ننتمي الى سياسة معينة. لبنان يمرّ بتحولات جذرية، وانا قلت ان رؤساء المواقع الحساسة في لبنان، كما في بلدان أخرى، يأتون مع سياسة ويتغيرون بتغيّرها.

هل يعقل انك لا تحب السلطة وأنت الذي لم تترك دوراً للآخرين؟

- ماذا تقصد؟

وسّعت دورك وحولت مدير الأمن العام شريكاً في الحكم ما أزعج رؤساء الجمهوريات والحكومات؟

- أنا ملأت الفراغ حيث كانت هناك ضرورة، والسلطة فيها، عادةً، فراغات كثيرة، وصلاحيات الامن العام تطال السياسة والاقتصاد والامن وغيرها...

هناك كلام في البلد انه كان لديك دائماً عدد من الوزراء تحركهم أحياناً ضد الرئيس الحريري، وقيل ايضاً ان بعضهم كان يكتب التقارير، كيف يجوز لمدير الأمن العام ان يفعل ذلك؟

- البلد صغير وكل الناس يعرفون بعضهم. ان يعرف مدير الأمن العام نصف الوزراء إذا لم يكن كلهم فهذا أمر طبيعي. غير طبيعي ان لا يعرف مدير الأمن العام اعضاء الحكومة.وإذا ذهبت الحكومة ولم تقم علاقة بينه وبين الذين لم يكن يعرفهم هذا غير طبيعي ايضاً. إذا اخذت في الاعتبار عملي في الاستخبارات ثم في الأمن العام تجد من الطبيعي ان اعرف كثيرين من الوزراء والنواب والمعارضين وكبار الموظفين. العلاقات تتفاوت: هناك صداقات حميمة وأخرى علاقات عادية وعلاقات عابرة، وهناك من تكون لديه حساسية تجاهك. الواقع أنك تجد احياناً وزراء قريبين ليس منك كمدير للأمن العام بل من السياسة العامة للحكم ورئيس الجمهورية.

أعلى الصفحة

امّا عن كتابة تقارير من قبل بعض الوزراء عن مسار الجلسات فلا حاجة اليها اطلاقاً. لبنان بلد مفتوح، مداولات مجلس الوزراء تنشر في اليوم الثاني في الصحف بما فيها الخلافات. القول بوجود وزراء مخبرين يعتبر نوعاً من الشتيمة. لدينا صداقات في مواقع مختلفة تنتمي الى توجهات سياسية متقاربة كنا نتفاعل معها ليس لسياسة شخصية.

لقد اتهمت في تلك المرحلة بأنني حليف الحريري واتهمت في مراحل أخرى بأنني معادٍ له، والحقيقة ان الأمر كان يتعلق بنوع الملف وطبيعته وتوقيته. مصالحة الحريري لم تكن مزاجاً ومخاصمته لم تكن مزاجاً. رؤيتك للطريقة الأفضل في معالجة الملف قد تدفعك الى التلاقي مع الشخص أو الافتراق عنه.

هل كنت تتدخل في تشكيل الحكومات؟

- حسب ما تعنيه بكلمة «تدخل»، احياناً يطلبون منك ومن غيرك ان تقترح اسماء بمواصفات معينة. كنت احياناً من الذين يؤخذ رأيهم في تفاصيل معينة، وهذا من صلب عمل الأمن العام ولا يتعلق الأمر بجميل السيد. كل المديرين الذين سبقوني كانوا يحملون مسودات تشكيلات حكومية أو تعيينات ادارية ويجولون فيها بين الرؤساء لتقليص الفوارق أو الخلافات. هذه طبيعة عمل الأمن العام، وبهذا المعنى نعم كنت اتدخل.

في آخر حكومة للرئيس عمر كرامي مثلاً سئلت عن اسم شخصية نظيفة وجريئة لحمل أعباء وزارة الكهرباء ولجم الهدر والفساد فيها فاقترحت بضعة أسماء من بينها السيد موريس صحناوي فجرى القبول به وكان من أنجح الوزراء اذ أنجز في بضعة أشهر ما لم ينجزه غيره في سنوات.

لو عدت بالذاكرة هل تعتبر ان خروج الحريري من الحكم فور انتخاب الرئيس اميل لحود في 1998 كان خطأ ارتكبه لحود وفريقه؟ ألم يكن الأفضل ان يستهلك رصيد الحريري في الحكم؟

- لا أعتقد بأن هذا المنظور اعتمد في هذه المسألة. الحقيقة ان مجيء الرئيس اميل لحود الى الرئاسة في 1998 تم خلافاً لرغبة معظم الطبقة السياسية في لبنان ويمكنني القول خلافاً لرغبة 90 في المئة منها وبينهم الرئيس الحريري والوزير جنبلاط وغيرهما. الرئيس الحريري كان يشكل في الساحة الوزن الأثقل والأهم فضلاً عن كونه الشريك في السلطة التنفيذية مع أي رئيس محتمل. كان الرئيس لحود يفضل ان ينطلق عهده مع شريك غير الرئيس الحريري، لكن سورية ممثلة بالرئيس حافظ الأسد كانت آنذاك مع نوع من الاستمرارية يرافقه تصحيح للأوضاع السياسية والاقتصادية والادارية بدلاً من تغيير كامل قد يدخل البلد في المجهول، خصوصاً في ضوء العبء الاقتصادي الكبير الذي يعتبر الحريري من الملمين بمعالجته. تجاوب الرئيس لحود مع التمني السوري بإبقاء الرئيس الحريري. وحين دخل الرئيسان في فكرة ما اسميه «الزواج القسري» انتقلا الى التفاصيل، والشيطان يكمن في التفاصيل. الغالبية النيابية سمّت الرئيس الحريري حينذاك لرئاسة الحكومة لكن الرئيس الحريري اعترض على اقدام بعض النواب على «تجيير» التسمية لرئيس الجمهورية، واعتبر مثل هذا التجيير غير دستوري ثم نقلت عنه محطة «أم بي سي» تصريحاً يتهم فيه الرئيس لحود بخرق الدستور. اعتقد بأن الرئيس لحود كان يمكن ان يقبل أي تهمة باستثناء خرق الدستور، خصوصاً انه آت الى الرئاسة تحت عنوان دولة القانون والمؤسسات. اعتبر الاتهام بمثابة رغبة في كسر الجرة معه. كل عوامل الطلاق كانت متوافرة لكن التصريح كان الطبخة المالحة التي دفعته الى العلن. استنتج كل من الرئيسين انهما يتجهان الى طلاق ففضلاه قبل الانخراط فعلياً في شراكة في الحكم.

أعلى الصفحة

هل تلقى الحريري يومها نصيحة من مسؤول سوري بترك الحكم بانتظار ان يستنزف جزء من رصيد الرئيس لحود؟

- لم أسمع بمثل هذه النصيحة. ما أعرفه هو ان الرئيس الحريري كان مستعداً للمشاركة في الحكم ولكن ليس وفق الشروط التي تناسب الرئيس لحود.

هل يغضبك اذاً ان تقرأ انك رجل سورية في لبنان؟

- أنا رجل سورية في لبنان ورجل لبنان في سورية من خلال ايماني العميق والكامل بالعلاقة اللبنانية - السورية. هذا واقع تاريخي وجغرافي. من المعيب مهاجمة العلاقة في حد ذاتها. المشاكل تكمن في ممارسة هذه العلاقة. انا متمسك بمبدأ العلاقة واعتبر انه يجب الا يمس مهما كانت المآخذ على الممارسات. في رأيي ان كثيرين من الذين مارسوا هذه العلاقة باسم التحالف اللبناني - السوري، أكانوا من المسؤولين اللبنانيين أم من المسؤولين السوريين الذين تعاطوا في الملف اللبناني، ارتكبوا اخطاء مشتركة.

هل كانت لديك زيارات سرية الى سورية، الاعتقاد السائد هو انه كانت لديك اجتماعات اسبوعية او شهرية؟

- في ضوء فهمي لهذه العلاقة لا أجد في الزيارات ما يسبب الحرج او الخجل ويشرّفني لو كان، لي اجتماع سري دوري مع الرئيس بشار الاسد. لكن الواقع هو غير ذلك. لقد أوفدني الرئيس لحود مرتين بمهمة الى سورية والمرة الثالثة كانت عندما تحدد موعد لي مع سيادة الرئيس الاسد بعدما استقلت واصبحت مدنياً. امّا داخل لبنان فكانت لي ولغيري من المسؤولين لقاءات مع ممثل سورية في لبنان سواء في زمن اللواء غازي كنعان ام في زمن العميد رستم غزاله، وهذه اللقاءات الدورية هي من طبيعة التنسيق والمهمات القائمة بين البلدين. ولم تكن تقتصر على مسؤولي الأمن بل كانت لمعظم أهل السياسة لقاءات مع ممثلي سورية.

متى ذهبت الى سورية كضابط في الجيش اللبناني؟

- المرة الاولى كانت مع العميد ابراهيم شاهين وكان قائد اللواء الاول، وكان ذلك في 1979 على ما أذكر. كان قائد اللواء الاول في «جيش الطلائع» الذي كان موجوداً في البقاع وكان يضم عسكريين من مختلف الفئات، في حين كان الجيش منقسماً في مناطق اخرى، جزء بقيادة العماد حنا سعيد وقسم بقيادة احمد الخطيب. كنت في بيروت وأصدر أحمد الخطيب مذكرة بحقي بسبب عدم التحاقي به ففضلت الذهاب الى البقاع وهناك اطلعت على الصيغة الموجودة وقررت طوعاً الانضمام اليها. كان هناك فهيم الحاج قائد الطلائع ومعه ضباط من كل الطوائف. كان ابراهيم شاهين عضو مجلس القيادة وكان هناك سليمان مظلوم وميشال زيادة وبطرس فرح وفواز المصري.

قرر العميد ابراهيم شاهين زيارة سورية وطلب مني ان أرافقه بصفتي ضابط أمن اللواء وكنت برتبة نقيب.

ألم تذهب في العام 1976 مثلاً الى سورية؟

- أبداً. لم اكن اعرف احداً يومها.

كضابط أمن في البقاع ألم تكن تنسق مع السوريين؟

- عام 1978 كنت في الأمن العسكري أي عملي داخل الجيش وكنت برتبة نقيب. بدأت التنسيق مع السوريين حين صرت في فرع الاستخبارات في البقاع في 1983، كون التنسيق عادة هو على هذا المستوى وليس ادنى منه.

بمن التقى العميد شاهين يومها؟

- التقى رئيس الاركان السوري العماد حكمت الشهابي. كان جيش الطلائع يحصل على معداته من سورية. كان «جيش الطلائع» عبارة عن ثكنة رياق التي تضم القاعدة الجوية وثكنة أبلح حيث مقر اللواء الاول الذي تنتشر وحدات منه في راشيا وبعلبك. كان شاهين قائد القوات الميدانية. المعدات والاسلحة والذخائر والمحروقات كان يتم تأمينها من سورية.

متى التقيت للمرة الأولى مسؤولاً سورياً رفيعاً؟

- التقيت اللواء غازي كنعان في 1983 وكان وصل للتو الى لبنان. كان العميد ميشال رحباني قد عيّن رئيساً لفرع الاستخبارات في البقاع واقترح تعييني مساعداً له. كان الرحباني يتولى العلاقة مع كنعان. حصلت تشكيلات ونقل الرحباني الى بيروت. قبل مغادرته قال لي سأعرفك على المسؤولين السوريين الذين أنسق معهم.

رئيس فرع الاستخبارات في البقاع كان يقوم بمهمتين الاولى أمنية اقليمية في البقاع والثانية كضابط ارتباط بين القيادة في بيروت والقيادة السورية في البقاع. كان يلعب دور الوسيط ويرافق المسؤولين اللبنانيين في زياراتهم الى دمشق خصوصاً بعد عودة الزيارات إثر سقوط اتفاق 17 ايار .

ذهبت مع المقدم رحباني لزيارة العقيد غازي كنعان الذي كان يحبه ويحترمه وكانت للرحباني علاقة تنسيق مع السوريين بحكم عمله مع قوات الردع العربية. كان مركز كنعان في شتورة، وبدا رد فعله سلبياً اذ كان واضحاً انه يفضل بقاء الرحباني لأنه يعرفه. تلك كانت المرّة الاولى التي أتعرّف فيها الى كنعان. بعدها وبحكم العلاقات والمهمات كنت التقي العقيد كنعان. وكنت اذهب الى دمشق بطلب من القيادة حين كان الرئيس أمين الجميل يتوجه اليها بصحبة مدير الاستخبارات سيمون قسيس وغالباً وزير الخارجية ايلي سالم.

أعلى الصفحة

عودة لصفحة سي السيِّد

عودة لصفحة الملف الأسود