إلى تبسة

في أواخر  كانون الثاني 1986 سافر إبراهيم سلمان إلى معسكر تبسة في الجزائر مزوداً بتسهيلات غير مباشرة من أبو محمد، تحت غطاء زيارة عادية إلى أحد الأصدقاء حيث مكث عدة أيام عاد بعدها ليلتقي أبو محمد الذي زوده مرة أخرى بتوجيهات وأجوبة عن الأسئلة . منها أن عرفات لم يكن على علم بعملية " أكيلي لاورو " وأنه اتخذ إجراءات ضد جبهة التحرير الفلسطينية كعقاب على تجاوزها، في حين كلفه ببحث عدد من النقاط لمعرفة قضايا خصوصاً ما يتعلق بتبسة . كما زوده بالمعلومات اللازمة حول طريقة حصوله على الأجوبة .

وسافر إبراهيم في منتصف شباط 1986 إلى لارنكا ومنها إلى نيقوسيا، حيث نزل في فندق " كينيدي " وهناك اتصل بباريس، وترك خبراً لجون . وفي مساء اليوم نفسه اتصل به هذا الأخير محدداً موعداً للقاء الساعة السابعة من اليوم التالي. وفى هذا الموعد كان جون يطرق باب غرفة إبراهيم طرقات خفيفة بإصبعه ثم دخل لتبدأ جلسة جديدة من العمل، استمرت حتى ساعة متأخرة من الليل. سجل جون على أثرها الأجوبة، وخصوصاً حول تبسة وهى أسئلة كانت طويلة ودقيقة. كم عدد مقاتلي المعسكر؟ من هم مسئولو المعسكر؟ وما نوعية التدريبات التي يتلقاها المقاتلون في المعسكر، وهل هي كلاسيكية أم خاصة؟ وهل يوجد في المعسكر تدريب على العمليات الإرهابية، مثل اختطاف الطائرات وتهريب المتفجرات في المطارات واحتجاز الرهائن؟ وكيف يتحول المقاتلون من تبسة إلى لبنان وما هي الطرق التي يسلكونها والوسائل التي يستخدمونها ؟ من هم الأشخاص الذين يسهلون في قبرص عمليات إعادة المقاتلين إلى لبنان؟ ومن يرشحه المقاتلون لقيادة المنظمة بعد عرفات؟ وما أنواع الأسلحة وهل توجد حراسات جزائرية وكم عددها وتسليحها وكم ضابطاً فلسطينياً في المعسكر وأسماء المسؤولين ورتبهم ؟ وهل قادة المعسكر شعبيون بالنسبة إلى المقاتلين وهل يشتكى المقاتلون من شيء مثل سوء المعيشة أو نقص الراتب؟
وكان أبو محمد قد اتصل بشكل سرى مع مسؤول الاستخبارات العسكرية في المعسكر وطلب منه معلومات محددة وزود الشاب بمعلومات إضافية مدروسة ، ومنها وجود سجين برتغالي عمل مع  الموساد في لبنان ويسجن الآن في المعسكر. وكانت المفاجأة عندما قدم جون إلى الشارب خارطة عن الجزائر طالبا منه وضع إشارة " اكس " على المعسكر. ثم طلب تحديد مقر قيادة المعسكر. زياد الأطرش، ومساكن الضباط والمقاتلين ومخازن الأسلحة والحراسة الجزائرية. فارتبط إبراهيم من هذه الأسئلة الخطيرة وأدرك اللعبة على الفور، فقال : لم أتمكن معرفة مخازن الأسلحة وأشار إلى النقاط الأخرى .

وفى اليوم التالي عاد ضباط  الموساد وطلب من إبراهيم رسم خريطة للمعسكر، كما طلب منه تحديد مسافات المعسكر ، طولا وعرضا بالأمتار . وبعد قام بذلك ، قال ضابط الموساد:

Ø     الآن حدد مواقع الصواريخ " سام " والمضادات للطائرات .

Ø     فقال إبراهيم : لا أعرف مواقع الصواريخ ولا ما إذا كانت موجودة أم لا .

Ø     فرد جون : ماذا تقول ؟ يجب أن تعرف فهذا أهم من كل الأسئلة الأخرى حول المعسكر .

Ø     فقال إبراهيم على الفور : أنك لم تطلب منى ذلك .

Ø     فابتسم جون بخبث وقال : هذه غلطتي، ولكن هل تعتقد أن المضادات للطائرات موجودة داخل المعسكر أم خارجه ؟ .

الفصل الرابع

الموساد تتجسس على مندوب أمريكا

تضمنت تعليمات أبو محمد إلى إبراهيم سلمان قبل سفره أنه إذا سأله ضابط الموساد جون معلومات إضافية عن المعسكر، فعليه أن يكون متنبها.ً وقد رفض الشاب تحديد مواقع صواريخ  سام والمضادات للطائرات، بحجة عدم مشاهدتها ، أو الاطلاع على مواقعها في حال وجودها .

وفى اليوم الثالث عاد جون وطلب من إبراهيم رسم خارطة ثالثة عن المعسكر سائلاً إياه تحديد أمور أخرى أكثر دقة . وبعد انتهاء جلسات العمل زوده بمبالغ مالية ومجموعة عديدة من الأسئلة حول المرحلة المقبلة . وبعد عودة إبراهيم، بدأت الأمور تتضح، إذ وردت على المخابرات الفلسطينية معلومات من عدة مصادر، بينهما عملاء مزدوجون . وفى إطار تبادل المعلومات مع المخابرات الصديقة، تأكد أن إسرائيل تخطط ضربة عسكرية ضد معسكر تبسة. إلا أن التحليل الذي وصل إليه أبو محمد في البداية، عندما أحضر الشاب الأسئلة ، رجح إلى عدة احتمالات : الأول إما أن الموساد تعرف عن معسكر تبسة أكثر من غيره وشاءت اختبار إبراهيم، أو أنها تنقصها بعد المعلومات عن تبسة . أما الاحتمال الثالث فهو أن تكون إسرائيل بصدد ضرب هذا المعسكر بالذات. ومن المعلومات المتوفرة خرج أبو محمد بقناعة مفادها أن إسرائيل تخطط فعلاً لقصف المعسكر، وخصوصاً بعد أن استفسر أبو محمد طويلا عن أسلوب جون في الحديث، وأسئلة أخرى عديدة. وقد أرسل هذه المعلومات إلى الجهات المختصة في منظمة التحرير الفلسطينية، وجرى توجيه قيادة المعسكر لاعلان الاستنفار، وأبلغت المعلومات إلى وزارة الدفاع الجزائرية التي وضعت قواتها في تأهب. وتم تسريب هذه الإجراءات إلى وكالات الأنباء بشكل معتمد. وأحبطت العملية المتوقعة . وبعد فترة قليلة، اتصل المسؤول عن الاستخبارات في معسكر تبسة بأبو محمد وأبلغه أن شخصاً ما يبحث بطريقة سرية عن السجين البنغالي . وعلى الفور جمعت المعلومات حول هذا الشخص، ثم ألقى القبض عليه واعترف بعلاقته مع  الموساد  وأن هذه الأخيرة كلفته البحث عن البنغالي، مما يعتقد أنه نتيجة المعلومات التي سر بها أبو محمد إلى المخابرات الإسرائيلية بعدما توفرت لديه معطيات سابقة حول الموضوع واراد التأكد منها .

إلا أن العملية الإسرائيلية لم تتوقف عند تبسة، بل تجاوزتها إلى القيادات الفلسطينية، فحمل إبراهيم أسئلة جون هذه المرة وهو حول أمن القيادات الفلسطينية وأبرزها ياسر عرفات وأبو أياد وأبو جهاد .

وبعد عودة إبراهيم بدأت أسئلة إضافية ترد باستمرار، في حين كان هو يرسل الأجوبة بوسائل الاتصال المتفق عليها. وكانت المؤشرات والمعلومات تدل على نوايا إسرائيل استغلال الحملة الأمريكية على منظمة التحرير لتنفيذ عدة عمليات، منها الغارة على تبسة. وكان التخطيط الإسرائيلي يقتضي إعادة سيناريو عملية فردان في بيروت. ولكن الاحتياطات الفلسطينية جعلت التنفيذ صعباً، وبدأ منذ ذلك التاريخ سباق بين مخططات الموساد والإجراءات الفلسطينية المضادة لحماية بعض القادة. فقد تم تزويد المخابرات الإسرائيلية بمعلومات تمويهية على هذا الصعيد. وكان أبو عمار وأبو أياد في جو الإجراءات الأمنية، في حين كان أبو جهاد العقبة الوحيدة، إذ كان يرفض تكثيف الحراسات والتمويه على تحركاته، لأنه كان غير مقتنع بهذه المظاهر .

وخلال شهري آذار ونيسان اتخذت الأجهزة الفلسطينية إجراءات احترازية . وقد ترجمت هذه الإجراءات عملياً . وأسهم إبراهيم في هذه المسألة بإرسال معلومات زوده بها أبو محمد للتمويه على تحركات بعض القادة الفلسطينيين . فيما بعد عندما تبينت  الموساد  عدم صحة معلوماته أنه ينقل ما يسمعه من المرافقين ومعارفه . وأن الذنب ليس ذنبه . وقد أحبطت عملية فردان الجديدة  وبدأ للموساد أن من المستحيل تنفيذها في ظل معلومات إبراهيم وفي نيسان 1988 وصلت لأبو جهاد واغتالته في منزله، بعد أن توصلت إلى قناعة نتيجة لتجربتها الأولى مع إبراهيم بأنه يستحيل تحقيق أكثر من هدف دفعة واحدة . وعلى الرغم مما أحاط اغتيال أبو جهاد من ملابسات، فالمعلومات الفلسطينية أشارت إلى أن الموساد تخطط عمليات أخرى وكان أبو جهاد الحلقة الأضعف في القيادات الفلسطينية والحراسات، بسبب قناعاته المشار إليها .

وفى الوقت نفسه وردت مجموعة هامة من الأسئلة حول أبو محمد تقول : أنه طالما يسافر كثيراً إلى أوروبا الشرقية فأين مكاتبه السرية في هذه البلدان ؟ وأين يقيم ؟ وأين مكاتبه العلنية ؟ وكم عدد العاملين فيها ؟ وطلبت تفاصيل أخرى . إذ لم يكن أبو محمد مجهولاً لدى الموساد  بل هو معروف في دوائرها منذ 1986 ، وقد نفذ عمليات ناجحة ، وبحثت عنه  الموساد لكنه بقى بالنسبة إليها مجهولاً .