بالقرب من جامع الزعتري على المدخل الشمالي لمدينة صيدا، ارتفعت البنايات الرائعة التي تقع على البحر مباشرة بطريق بوليفار، المتفرع من الطريق السريع صيدا – بيروت.
بإحدى هذه البنايات ولد خميس بيومي لأسرة ميسورة جداً كثيرة العدد، فوالده مقاول كبير يملك مكتباً فخماً يموج بعشرات الإداريين.
وفي محيط هذا الثراء عاش خميس مدللاً، مرفهاً ، منعماً، لا يعلم من أمر الدنيا سوى اللهو والسهر في حانات بيروت ومواخير صيدا برفقة من يماثلونه ثراء، وخواء، فنزف عمره بحثاً عن المتعة ومطاردة الحسان، متجاهلاً نصائح والده الذي فشل في الاعتماد عليه في إدارة أعماله، فتركه لحاله يائساً، غاضباً، على أمل أن يوماً سيأتي ويفيق الى نفسه.
لكن أمله لم يتحقق في حياته، إذ مات فجأة في حادث سيارة، وانخسفت الأرض بأسرته لما تبين لها أنه مدين بمبالغ طائلة للبنوك، وأفاق المُغيّب على واقعه المؤلم وقد صفعته الصدمة وزلزلته الكارثة، خاصة وقد تهرب منه أصقداء الطيش وليالي النزق.
هكذا وجد نفسه العائل الوحيد لأمه ولإخوته الستة، وكان عليه، وهو الخاوي، أن ينبذ ماضيه ليعبر بهم خضم الفقر، والعوز، والمعاناة.
فعمل كأخصائي للعلاج الطبيعي بأحد مراكز تأهيل المعوقين بصيدا، وبعد مرور أربعة سنوات في العمل، اكتشف أنه كثور يجر صخرة يصعد بها الى الجبل، وفي منتصف المسافة تنزلق الصخرة، فيعاود الكرة من جديد دون أن يجني سوى الشقاء.
لذلك كره نفسه وكره واقعه، وفكر بالهجرة الى كندا وبذل جهداً مضنياً لكن محاولاته فشلت، فخيمت عليه سحابات الغضب واليأس، وانقلب الى إنسان قائط، عصبي، عدواني، مكروه في محيط عمله.
كانت كل هي حاله، الى أن سقط وهو في قمة ضعفه في مصيدة الموساد بلا مقاومة، وكانت قصة سقوطه سهلة للغاية، وجاءت بدون ترتيب أو تخطيط طويل.
فذات صباح التقى بسيدة أرمينية مسنة، جاءت لتسأله عن إمكانية عمل علاج طبيعي لابنتها المعاقة بالمنزل، وأعطته العنوان لكي يزورها بعدما أطلعته على التقارير الصحية التي تشخص حالتها.
قرأ خميس في حديثها وملبسها علامات الثراء، فزار منزلها حيث كانت ترقد "جريس" بلا حركة، طفلة في التاسعة من عمرها بعينيها شعاعات الأسى والبراءة.
لعدة أسابيع ... داوم على زيارتها للعلاج الى أن تصادف والتقى بخالها "كوبليان" تاجر المجوهرات ببيروت، فتجاذبا معاً أطراف الحديث، وقص خميس حكايته مع الثراء وليالي بيروت، وصراعه المرير مع الفقر لينفق على أسرته، وسأله كوبليان سؤالاً واحداً محدداً، عن مدى قدرته الإقدام على عمل صعب، بمقابل مادي كبير، فأكد خميس استعداده لعمل أي شيء في سبيل المال.
سافر كوبليان الى بيروت وقد خلف وراءه صيداً سهلاً، ضعيفاً، يأكله قلق انتظار استدعائه... وما هي إلا أيام حتى فوجئ كوبليان بخميس جاء يسعى اليه في بيروت، يرجوه أن يمنحه الفرصة ليؤكد إخلاصه، فهو قد ضاق ذرعاً بالديون والحرمان ومتاعب الحياة.
رحب به عميل الموساد واحتفى به على طريقته، فقد أراد الشاب الحانق أن يجدد ذكرياته في حانات بيروت، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع فسرعان ما انجذب خميس لماضيه، وترسخت لديه فكرة العمل مع كوبليان كي لا يحرم من متع افتقدها.
كانت آلاف الليرات التي تنفق عليه في البارات دافعاً لأن تزيد من ضعفه وهشاشته، ونتيجة لحرمانه، ورغبته، لم يعارض مضيفه فيما عرضه عليه، وكان المطلوب منه حسب ما قاله، تهديد المصالح الأمريكية لموقفها مع إسرائيل ضد لبنان، وضدالعرب، ولما أنقده خمسة آلاف ليرة – دفعة أولى – قال له خميس إنه مع النقود ولو كان ضد لبنان نفسه.
ترويض القتلة
في إحدى الشقق ببيروت، أقام خميس أحمد بيومي ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهد به ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه "روبرتو"، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط ميقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات.
كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة T.N.T شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خاصة وخميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش، ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.
وفي أولى عملياته التخريبية، صدرت اليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية ببيروت.
سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود، وحمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط ميقاتها، وتوجه الى مبنى السفارة في هدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى بدون حقيبته التي تركها بالصالة الرئيسية خلف فازة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.
نصف الساعة وملأ الحي دوي الانفجار، وقتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين ، ولاهثاً خائفاً عاد الى شقته، ولحق به روبرتو ليجده على هذا الحال، فيصفعه بعنف قائلاً انه يعرض نفسه بذلك للخطر.
وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، بينما تنهال عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، ومعنى سكونه ما هو إلا خضوع والشعور بندم، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً وليناً، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً،فتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس.
ذلك أنهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس .. فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة بمكان ... !!
وعندما أذاع التليفزيون حادث التفجير، وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يرقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره، وقتل أية محاولة للرفض، أو التمرد، أو الندم.
كانت إسرائيل تقصد من تفجير السفارة العراقية ببيروت إشعال الشقاق بين الدولتين، وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة لتقوية أواصر العلاقة بين لبنان، والاتحاد السوفييتي، ويويد لبنان في خطواتها نحو الاتجاه الى "الشرق"، وكانت إسرائيل تقصد أيضاً توجيه الاتهام الى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.
ونظراً لظروفه السيئة... أغدقت الأموال على خميس بيومي فكفر بعروبته، وتحول بعد مدة ليست بالطويلة الى دموي يعشق القتل والدم، بل إنه استطاع تجنيد لبناني آخر اسمه "جميل القرح" كان يعمل مدرساً وطرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال. فتصيده خميس وجره الى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضامه للشبكة، ولم يستغرق تدريبه هو الآخر وقتاً طويلاً، فلسابق خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب... وأعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء.
هكذا انضم قاتل الى قاتل، وشكلا معاً في النهاية شبكة من الإرهاب هزت أعمالها بيروت.