بعدما اتسع نطاق شبكة الجاسوسية، وبالتالي تعددت مصادر التقارير والأسرار، كانت شولا تعاني من صعوبة نقل المعلومات المتدفقة عليها إلى إسرائيل، ورأت أن الحل يكمن في تجنيد أحد اللبنانيين قاطني الجنوب نظراً لسهولة تسلله إلى إسرائيل بالمعلومات والتقارير، دون أن تثير تحركاته أحداً.

فكرت جدياً بهذه الحيلة، في ذات الوقت الذي سعت فيه لإيجاد مركز يجمعها بجواسيسها، وبواسطة كبار المسؤولين اللبنانيين، استأجرت عميلة الموساد إحدى الكافيتريات بشارع "الحمراء"، وحولتها إلى "بار" يزدان بالديكورات والحسناوات أطلقت عليه اسم بار "الرامبو".

ومع الخمر والليل وجدت ضالتها المنشودة في شخص ابن الجنوب الساذج – محمد سعيد العبد الله – الذي حملته ساقاه ذات مساء إلى البار ..فتسمر منبهراً باللحم الأبيض يتراقص ويتمايع، معلناً ويعلن عن مواطن الإثارة في صراحة..وثقلت عليه رغباته المكبوتة فتاه عقله، وأحكمت شولا سيطرتها عليه بعدما تأكد لديها أنه سقط لآخره في براثنها.

وفي ليلة حمراء أريقت فيها الخمور المعتقة، وذبلت العيون وتراخت الأعصاب في وهن، فاتحته في الأمر. وكم كانت واثقة من إجابته، فإنه على استعداد لأن يفعل كل شيء في سبيل ألا يخسرها، أو يضيع لحظة واحدة من أوقات المتعة التي أدمنها. فحملته بالتقارير والمعلومات، وتسلل بها إلى الجانب الإسرائيلي..ولم يرجع اليها بأوامر الموساد الجديد فقط، بل اصطحب معه ابن عمه "فايز العبد الله" الشاب المغامر..الذي يعرف الدروب الجبلية ومواطن الضعف الأمني بمناطق الحدود الجنوبية.

وعلى انفراد، أخبر شولا بأن ابن عمه مستعد هو الآخر للانضمام إلى شبكة الجاسوسية مقابل المال. فلم تمنحه شولا المال وحده، بل وهبته أجمل فتياتها اللاتي ضيعن لبه، وسحرنه بما لم يألفه من متع النشوة، ليدور في النهاية كسابقيه في فلك الخيانة والتردي.

وأخيراً جاء لها سعيد بابن العم الثالث "نصرت العبد الله" طائعاً مختاراً هو الآخر، وكأنما عائلة العبد الله قد جبلت كلها على الخيانة واعتادتها..

وبذلك أمكن لشولا أن تنقل ملفات تقاريرها أولاً بأول عبر هؤلاء الثلاثة إلى قادتها في إسرائيل دونما صعوبة...أو تشكك من الجهات الأمنية اللبنانية..

بذلك..تحول ملهى الرامبو إلى مركز لاصطياد الجواسيس وملتقى لهم في ذات الوقت، وأيضاً، ليعاين كبار الموظفين اللبنانيين الفتيات المثيرات المختارات فتتضاعف خدماتهم لشبكة شولا..في وقت لم تكن ظروف الأمن في لبنان مهيأة لتتبع النشاط التجسسي الاسرائيلي في بيروت، بسبب انشغال الميليشيات الطائفية بتسليح نفسها، على حساب قوة الجيش والأمن الداخلي.

لقد انقلبت المفاهيم العسكرية في لبنان حتى أن قوى الأمن الداخلي كانت في حالة صراع لا يتوقف مع الجيش. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبودلت الأدوار أيضاً وتسلمت قوى الجيش حراسة بعض المرافق العامة بدلاً من قوى الأمن الداخلي، واستعمل الجيش كنقاط أمنية منفردة بعيداً عن ملاحقة الميليشيات العسكرية، التي كانت تستولي على آليات الجيش ومدرعاته وأسلحته، واعتقاد رئيس الجمهورية اللبناني في قصر "بعبدا" أنه هو لبنان، وهو الشرعية.

وبسيطرة العقلية العائلية على نظام إدارة الحكم والدولة، كان هناك استرخاء أمني أدى إلى تغلغل الجواسيس وانتشارهم في ربوع لبنان، حيث لا يوجد جهاز مخابراتي نشط بتعقب الجاسوسية المضادة... أو يعمل على وقف سيلان المعلومات الحيوية عن الدولة إلى العدو المتربص في أقصى الجنوب.

عزيز الأحدب

تغافل محمود عوض، المسؤول اللبناني الكبير عما تقوم به شولا في لبنان..مكتفياً بالليالي الملتهبة بين أحضان الحسان، ولما أدرك قيمة الخدمات التي يؤديها مقابل الجنس، صارح شولا بأنه الخاسر بلا شك..وطالبها بمقابل مادي حيث أن هدفه الأسمى في الحياة هو المال والثراء.

انزعجت شولا لطلبه الجديد فهو ثري في الأصل، وما كان يطلب منها سوى فتيات صغيرات جميلات يعدن إليه شبابه.

وبرغم سيطرتها عليه بوسائل عدة، منها تصويره في أوضاع شائنة مع أكثر من تسع فتيات، إلا أنها نفت فكرة تهديده، ذلك لأنه يعرف جيداً كل المتعاملين معها من ذوي المراكز، وكتبت بذلك إلى رؤسائها فوافقوا على رأيها، فأغدقت عليه الأموال مقابل تقاريره عن موظفي الدولة والدوائر الرسمية، التي كان يحملها العبد الله إلى الإسرائيليين عبر الحدود في أوقات معينة متفق عليها.

وفي مايو 1958، وصل إلى بيروت ضابط سوري مسؤول، اجتمع من فوره بأحد ضباط الأمن اللبنانيين، وأبلغه بنشاطات شولا كوهين المشبوهة.. وإحاطتها بأسرار غاية في السرية عن الجيش اللبناني والسوري معاً.. تجلبها من خلال شخصيات على مستوى المسؤولية في البلدين على علاقة بها.

كانت خيبة أمل الضابط السوري كبيرة، عندما أخبره زميله اللبناني بأن شولا بعيدة عن الشبهات. وتم حفظ محضر الاجتماع في الأدراج برغم تأكيدات السوريين.

وفي بداية عام 1961 وقع محضر الاجتماع تحت يد ضابط لبناني شهم اسمه "عزيز الأحدب" فقرأ ما تحويه السطور.. وبدأ في جمع المعلومات في سرية تامة عن شولا.. وفوجئ بعد عدة أشهر من المراقبات والتحريات بأن الفتاة تدير أكبر شبكة جاسوسية إسرائيلية في لبنان.. امتدت نشاطاتها لتشمل كل مناحي الحياة المدنية والعسكرية، ليس ذلك فحسب، بل تجمعت لديه أدلةكافية، بأنها وراء عمليات تهريب اليهود اللبنانيين إلى إسرائيل، بواسطة "آل العبدالله" الذين يجيدون استخدام الدروب الوعرة في الجنوب.

هكذا، وبعد تسع سنوات من التجسس، ألقى عزيز الأحدب القبض على شولا كوهين في أغسطس 1961، واعترفت في الحال على شركائها، واثقة من أن نجدة ستجيئها حالاً من إسرائيل.

وأمام القضاء العسكري اللبناني تكشفت حقائق مذهلة، عن تورط شخصيات عديدة مسؤولة، في إمدادها بأدق الأسرار والتقارير التي تمس لبنان وكيانه.

أصدرت المحكمة في 25 يوليو 1962 حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً على شولا كوهين، التي أطلق عليها اليهود لقب "الزعيمة" و 15 عاماً على زميلتها راشيل رافول.

أما محمود عوض فقد قضى نحبه في سجن الرملة في يونيو 1962 إثر نوبة قلبية فاجأته قبل الحكم عليه، فلقي جزاء ربه وحكمه العادل.

لكن المثير للدهشة حقاً، أن يصدر حكماً بسجن آل العبد الله الثلاثة عشرون شهراً فقط لكل منهم ... إلى جانب أحكام أخرى بالسجن تقل عن عام على مسؤولين لبنانيين ضالعين في الجاسوسية، بما يؤكد ما ذكرناه آنفاً من ميوعة القوانين الجنائية التي يعمل بها في لبنان، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب تحول بيروت إلى أشهر عاصمة عربية يأمن فيها الجواسيس على رقابهم، وساحة تباع فيها الأسرار القومية بأجساد النساء وتشترى..!!.

  عودة للقائمة الرئيسيّة من زاوية الجاسوسية