HOUTMOUHAMED

على رأس الشركة التي تُعنى برفع أرزة لبنان فوق عواصم العالم

على صوت إقلاع وهبوط الطائرات في مطار رفيق الحريري الدولي، حططنا رحالنا في مبنى إدارة طيران الشرق الأوسط. وكانت الابتسامات والترحيبات تنهال علينا من وراء كلّ منضدة وباب في طريقنا إلى مكتب رئيس مجلس إدارة الشركة محمد الحوت، الذي ترك في أعين موظّفيه وأفواههم مسحةً من الافتخار والسرور.

الأرزة الخضراء الأبيّة التي ترفرف يوميّاً على أجنحة الطائرات اللبنانية من بلد إلى بلد، تقف أيضاً شاهدة في أروقة ذلك المبنى على إنجازات محمد الحوت الذي خصّص آخر 15 سنة من حياته لخدمتها وخدمة واحدة من أنجح المؤسّسات اللبنانية.

◄ذكريات

خرج الحوت من "المحيط" المليء بالأمواج الإعلامية والتيّارات السياسية، وغاص بنا إلى أعماق ذكريات يسبح فيها كلّما حنّ إلى زوايا منزل الطفولة في منطقة الطريق الجديدة.

ذلك المنزل الذي كان يمتلئ في الصباح بصوت الوالدة التي سهرت ليلاً نهاراً على تربية بناتها الثلاثة وابنها الوحيد محمد، وفي المساء بعجقة الزوّار كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء، القادمين لسماع مشورة الوالد عبد الرحمن الحوت ونصائحه السياسية والاجتماعية والدينية.

يتحسّر محمد الحوت على أيام الطفولة التي كانت تزيّنها براءة العلاقات ما بين الجيران وتُثقل كاهلها شيطنات الأولاد وحبّهم لمنطقتهم. وهذه الحسرة غالباً ما تمتزج من خلال كلماته بشوق إلى جدران ذلك المنزل التي امتلأت بأحاديث وأسرار وطنية وسياسية.

فالوالد كان من وجهاء المنطقة، وكانت كلمته مسموعة عند الأهالي ولدى أبرز رجال السياسة اللبنانيين الذين واظبوا على زيارته للدخول في نقاشات طبعت ذهن محمد الحوت بحبّ مميّز لوطنه وانفتاح فريد على كافّة الأطياف السياسية والدينية اللبنانية.

ويتذكّر بعضاً من الأسماء اللامعة التي دأبت على زيارتهم في المنزل أو في مركز الجمعية (جمعية الإصلاح الاجتماعي) من أمثال صائب سلام صديق العائلة المقرّب، بالإضافة إلى الإمام موسى الصدر ورئيس حزب الكتائب بيار الجميّل وتقي الدين الصلح وإدمون رزق، وغيرهم الكثيرين. وهكذا مهّدت تلك التربية لنشوء الشاب الطموح المنفتح على كافّة مكوّنات مجتمعه من دون تفرقة طائفية أو سياسية.

◄مشوار الطبّ

صقل محمد الحوت حبّه للعمل الطبّي وشذّب شغفه للعمل الإجتماعي من خلال انخراطه في نشاطات "جمعية الإصلاح الاجتماعي" التي أسّسها والده عام 1959، والتي كانت تهتمّ بتعليم النساء أصول الخياطة والطباعة والتزيين النسائي، لكنّها سرعان ما انتقلت إلى تقديم الإسعافات والخدمات الطبّية المتفرّقة عقب اندلاع النزاعات المسلّحة في بيروت عام 1973، وحينها تعلّم محمد الحوت أصول تقديم الإسعافات الأوّلية، وبدأ هناك حبّه يكبر للعمل الطبّي.

وبعدما أنهى دروسه الثانوية في مدرسة "المقاصد الحرج الإسلامية" حصل على منحة لدراسة الطبّ في المغرب، لكن بعد وصوله بفترة وجيزة حصل خلاف بين الرئيس صائب سلام والسفير اللبناني في المغرب أدّى إلى خسارته المنحة وعودته إلى لبنان، لكنّ الحلم كان أقوى من التجاذبات السياسية الداخلية، فحصل بعدها على منحة لدراسة الطبّ في مصر، وما لبثَ أن بدأ دروسه حتى عاكسه القدر مرّة ثانية وعاد أدراجه إلى بيروت عقب توقيع الرئيس المصري أنور السادات على اتّفاقية كامب دايفد.

◄لعبة القدر

خلافات داخلية ممزوجة بتناقضات إقليمية دفعته للتخلّي عن حلمه والأخذ بنصيحة الرئيس صائب سلام لدراسة الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت، وبعد أن أقفل القدر بوجهه باباً في الماضي فتح أمامه أبواباً كثيرة مهّدت لدخوله مصرف لبنان المركزي من دون منّة من أحد ومن غير أيّ واسطة، بفضل أستاذه الدكتور أندريه شعيب والحاكم الشيخ ميشال الخوري.

لا يُنكر محمد الحوت فضل القدر عليه وعلى مشواره المهنيّ الذي سهّل عليه مهمّة الدخول إلى مصرف لبنان وسمح له بالتعرّف إلى الحاكم إدمون نعيم الذي عيّنه مستشاراً له عن عمر 27 سنة فقط، ومن بعدها تعرّف إلى رياض سلامة الذي انتقاه لاحقاّ لإدارة شركة طيران الشرق الأوسط. وفيما لا يُنكر محمد الحوت جميل القدر إلّا أنّه لا يقلّل من قيمة المجهود والكدّ والسهر التي واجه بها جميع الصعوبات لإثبات نفسه وجدارته في تحمّل المسؤوليّات.

◄قبطان الأجنحة اللبنانية

تولّى محمد الحوت إدارة شركة طيران الشرق الأوسط عام 1998، عندما كان يبلغ من العمر 38 عاماً، وقطع على نفسه عهداً مقدّساً منذ اليوم الأوّل، وهو السعي الحثيث لإنقاذ هذه الشركة التي تُعنى برفع أرزة لبنان الخضراء فوق كلّ دول العالم، فتحدّى كلّ المخاطر وبنى علاقة متوازية مع جميع الأطراف السياسيّين للحصول على بركتهم في السعي قدُماً لإنقاذ الشركة.

وتمكّن الحوت بمساعدة فريقه في العام الأوّل من تخفيض خسائر الشركة من 87 إلى 42 مليون دولار، وكانت هذه نتيجة عظيمة نظراً لما كانت تعانيه الشركة.

أكثر ما يميّز شخصية محمد الحوت التي ظهر الكثير من معالمها هو حرصه الدائم على الاعتراف بجميل جميع الأشخاص، مهما صغر أو كبر شأنهم، الذين ساعدوه وسهّلوا مهمّته طوال فترة تولّيه إدارة الشركة.

ويعترف محمد الحوت بأنّ أكثر الأشخاص مساهمةً في إنقاذ الشركة كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكنّه في الوقت نفسه لم ينسَ توجيه الشكر إلى كلّ من الرؤساء نبيه برّي وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي ووزير الأشغال غازي العريضي الذين سخّروا قدراتهم لدعم نهوض الشركة في مختلف الظروف.

◄سرّ النجاح

ويكشف أنّ سرّ نجاح شركة طيران الشرق الأوسط هو وحدة قرار أعضاء مجلس إدارتها والدعم المستمرّ والثقة المطلقة من جانب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالإضافة إلى وجود الرئيس رفيق الحريري في موقعه السياسي حينها.

لكن وعلى رغم دور الحريري المميّز في مشوار النجاح، لا يخفي محمد الحوت دور رؤساء الحكومات اللاحقين، وعلى رأسهم عمر كرامي، الذي قال له في زيارة التهنئة عند تولّيه رئاسة الوزراء: "يا إبني أنت على رأس مؤسّسة ناجحة، ونحن نفتخر بما حقّقتموه وسعيدون به. دعك من السياسة ومن كلام السياسيّين، وأنا مستعدّ لتحقيق كامل طلباتك".

يقع مكتب محمد الحوت في طرف رواق شكّلت الصور على جدرانه الطويلة مدرجاً لأنظار الزوّار، تقلع عليه من تاريخ الشركة الذي ابتدأ مع الرئيس صائب سلام، لتحوم فوق صورة سليم سلام الذي حافظ عليها في أصعب الظروف، وصولاً إلى نجيب علم الدين وأسعد نصر اللذين تولّيا إدارتها في عصرها الذهبي، قبل أن تحطّ على صورة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المنتصبة مباشرة أمام مدخل المقرّ الذي يدير منه محمد الحوت شركة تعيل أكثر من 5000 عائلة.

◄مؤسّسة لجميع اللبنانيّين

لا يخجل محمد الحوت بأنّ شركة طيران الشرق الأوسط هي بمثابة شركة متواضعة، مقارنةً مع عمالقة الطيران في المنطقة، سواءٌ شركات الطيران الخليجية أو التركية وحتى الأوروبية. لكنّه في الوقت نفسه يفتخر بقدرات الشركة اللبنانية على تقديم خدمات مميّزة لزبائنها تحفظ لها مكانتها بين الكبار.

ويفتخر أيضاً بقدرة الشركة على تخطّي العقبات السياسية والخضّات الأمنية المتكرّرة التي يمكن أن تقضي على مقدّراتها في أيّة لحظة، لكنّه يتباهى

بجهده الدؤوب على تحييد شركة طيران الشرق الأوسط عن التجاذبات السياسية وجعلها مؤسّسة وطنية لجميع اللبنانيين وعلى مسافة واحدة من الجميع.

كشف محمد الحوت عن مشروع جبّار يعقد الكثير من الآمال عليه، وهو "مركز التدريب الإقليمي" الذي سيُعنى بتقديم دورات تدريبية للطيّارين والمهندسين والمضيفات، سواءٌ من لبنان أو من كامل دول المنطقة.ويسهر شخصيّاً على كامل تفاصيل هذا المشروع إيماناً منه بالدور الذي يمكن أن يقدّمه للبنان كدولة رائدة في تقديم الخدمات.

ولدى سؤاله عن الأحلام يقول إنّه تحقّق منها الكثير خلال المشوار، ولكن يبقى حلم واحد عزيز على قلبه، وهو رؤية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الرئيس المقبل للجمهورية اللبنانية.

لا يملك محمد الحوت طموحات سياسية ولا تدغدغ أحاسيسه المناصب الفخرية، وهو يفضّل أن يكون مديراً ناجحاً على أن يكون وزيراً فاشلاً.

والحوت إسم على مسمّى لهذا الرجل على كبر حبّه لوطنه وضخامة تفانيه لخدمة مؤسّسة تساهم في نثر صمود أرزة خضراء وتميّزها فوق عواصم العالم.