بسام ضو(*)

لا معنى للبنان خارج الاستقلال. وهذا المعنى وجودي بكل ما للكلمة من أبعاد سياسية وتاريخية، (لا نقصد طبعاً الوقوف على الوجودية الفلسفية بالمعنى السارتري فقط) فإذا فقد لبنان هذا المعنى فإنه يفقد وجوده السياسي ـ الوطني، وهو وجود لا يتعارض أصلاً مع انتمائه العربي المشرقي. وإذا كان من تعارض بين هذا الوجود المستقل وبين الانتماء العربي بحسب بعض المدارس القومية الكليانية، فإنه في الحقيقة ليس تعارضاً مع الانتماء بذاته، بل هو تعارض مع أنماط: الاستبداد، والوصاية، والاستتباع، والاستبدال (برز هذا الموقف بعد الـ1967)، ومع أساليب النظر اليه على أنه: ساحة أو سنجق، أو إيالة وفقاً للتعبير الإداري العثماني القديم الذي مات موتاً نهائياً تستعصي معه أي قيامة لأسلوب "الإيالات" مهما تقنعت بالشعار القومي الذي لم يخرج من "طبائع الاستبداد"، إذا صح لنا أن نستعير هنا عبارة عبد الرحمن الكواكبي.


لا متسع هنا للإسهاب في عرض الوقائع التاريخية، ولكن الفكرة الاستقلالية اللبنانية، في مرحلتها الحديثة تكرست منذ ما يزيد على ثمانية عقود، مهما تختلف وجهات النظر الى طبيعة التحولات بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تحولات لا يمكن التنكر لها، ولا يمكن التعامل معها بمجرد الأوهام القومية الشاملة. لقد أدت هذه الأوهام الى رومنطيقيات قومية سرعان ما انكشف خواؤها، ولا سيما بعدما فشلت في بناء "الدولة القومية" نفسها، حينما لم تقم وزناً فعلياً لمسائل: الحرية، والديموقراطية، والعدالة الاجتماعية (التجارب معروفة في العراق، وسوريا، وحتى في مصر بحدود معينة) ثم فشلت في إرساء فكرة "الدولة،" فانقلبت الى محض سلطة تحت قناع الدولة، ثم انزلقت سريعاً الى واقع السلطة ـ الشخص، والسلطة ـ الحزب، والسلطة ـ الطائفة، والسلطة ـ العائلة، وباتت كلياً خارج الحد الأدنى من التعامل الديموقراطي، وهذا ما أسس لأساليب الاستتباع والاستيصاء وفقاً لمنطق ذرائعي غير علمي يبرر الشيء ونقيضه في وقت واحد.


الاستقلالية اللبنانية لا ترفض الانتماء العربي، بل ترفض الاستبداد تحت شعار هذا الانتماء، وترفض التنكر لـ"الوطنية اللبنانية" من زاوية تصويرها نقيضاً عدائياً للعروبة، وهي على المستوى التاريخي، لا يمكن أن تشكل هذا النقيض، وقد أكد ذلك مراراً المعلم الشهيد كمال جنبلاط، في مواقفه وكتاباته الى أن صاغها في وثيقة سياسية تبقى الأبرز حتى الآن في مجالها، وهي وثيقة البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي التي كان قد أعلنها باسم الحركة الوطنية اللبنانية (في مؤتمره الصحافي في فندق البوريفاج 18/آب/1975). وهي في أحد أهم معانيها تعبير عن التمسك بالقرار الوطني اللبناني المستقل، أي التمسك بحرية اللبنانيين في التطور السياسي والاجتماعي بما يتناسب وإمكاناتهم وخصائصهم في التركيب المتنوع الذي لو ترك من دون ضغوط وإكراهات لكان قد تمكن فعلاً من الانتقال من صيغة العيش المشترك الى درجة أعلى، أي صيغة العيش الوطني المبني على الحرية والديموقراطية، وهما وحدهما العاملان القادران على بلورة مجتمع مدني حديث، ودولة مدنية حديثة بعيدة عن أشكال التسلط والاستبداد.
الاستقلالية اللبنانية لا تعني الانكفاء ولا الانطواء، ولا تطلبهما، بل تطلب التوازن والمساواة مع أي استقلالية عربية أخرى، وهي استقلاليات موجودة في إطار جامعة الدول العربية، فكيف يستقيم منطق قبول سائر الاستقلاليات العربية التي ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، مع منطق رفض الاستقلالية اللبنانية؟ وكيف يكون طبيعياً الحديث عن السيادة الوطنية في إطار الجامعة العربية، بينما لا يكون طبيعياً ـ وباسم الشعار القومي أيضاً ـ أي حديث لبناني عن السيادة؟..


الاستقلالية اللبنانية تتمسك بالانتماء العربي، لترد وتؤكد أن الصراع لا علاقة له بالانتماء، بل الصراع هو مع الوصاية والاستبداد، ولتشدد على أن لبنان لا معنى له من دون الاستقلال الوطني، ومن دون الحرية والديموقراطية، وأن الزمن الذي كان يُقال فيه إن الرد على واقع التجزئة بعد عام 1916 يكون بالدمج القسري، أو بالهيمنة التي تؤدي الى الإلغاء، هو زمن قد مضى، وأن لبنان مثل غيره يحق له أن يعيش وينمو في إطار سيادته الوطنية، وأن لا يتحمل فوق ما تحتمل قدراته، وهو أصلاً قد تحمل الكثير والكثير والكثير، ودفع عن غيره أثماناً باهظة، منذ نصف قرن، وليس منذ العام 1975 فقط.


ما أشرنا اليه، هو بعض مختصر جداً من خلفية واسعة لما نراه سياسياً في المرحلة الراهنة التي بدأت منذ أكثر من سنتين. وهي مرحلة حاسمة، يتقرر فيها مصير لبنان ـ الوطني، مثلما تتقرر فيها استحقاقات سياسية وقانونية كبيرة (رئاسة ا لجمهورية، المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إعادة الانطلاق نحو بناء الدولة المستقلة، إعادة الروح الديموقراطية والحوارية للحياة السياسية.. إلخ)، ولهذا بالضبط، فإن ما شهدناه أخيراً (اعتداء "فتح الإسلام" على الجيش اللبناني وما تبعه من اعتداء على المواطنين في الأشرفية وفردان وعاليه) هو جزء من هذه المعادلة الصراعية بين الاستقلالية اللبنانية وبين الاسترهان والوصاية، مهما تعددت التحليلات في قراءة ما جرى، ومهما تنوعت الآراء في كيفية معالجته.


قد يقول قائل: كيف تتحدثون عن "الاستقلالية اللبنانية" وعن "السيادة" في زمن تجتاح فيه "العولمة" سيادات الغالبية الساحقة من الدول؟ ولكن القائلين بمثل ذلك يفوتهم أن السيادة والاستقلال يمكن ممارستهما في إطار العلاقات الدولية المنفتحة والمتوازنة، شرط توافر الحد الأدنى الضروري من الوحدة الوطنية ذات المضمون الاستقلالي التي تستطيع وحدها ـ إذا تحققت بالفعل ـ أن تؤمن التوازن بين المصالح الوطنية، وبين موازين القوى الدولية الفاعلة بحيث لا تتمزق الأولى على مشاجب الثانية، أو بتعبير آخر بحيث لا تطغى الثانية (سواء أكانت دولية أم إقليمية) على الأولى.


ولا شك في أن هذه الوحدة الوطنية ذات المضمون الاستقلالي، وفي دائرة الانتماء العربي تحتاج الى حوار سياسي جدي بين جميع القوى السياسية التي ترى بصدق أن لبنان هو "وطن نهائي"، كما جاء في اتفاق الطائف، وإلا فما معنى الكلام عن التمسك باتفاق الطائف إذا لم يكن هذا الكلام معبراً عن روح "الاستقلالية اللبنانية"؟

(*) كاتب سياسي

عودة لزاوية مساحة حرة

*** المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها***

//-->