فادي شامية(*)

غني عن البيان عراقة وأهمية الشيعة في لبنان، فهم إحدى الطوائف الأساسية منذ قيام دولة لبنان الكبير، وهم ثاني أكبر طائفة انتخابياً وبفارق بسيط عن السنّة، ودورهم الثقافي والسياسي في لبنان والمنطقة، قديماً وحديثاً، مهم جداً، وتكفي الإشارة إلى أنه حينما تمكّن الصفويون من حكم إيران في مطلع القرن السادس عشر، وجعلوا من التشيّع الإمامي مذهبهم المعتمد، عمد الشاه إسماعيل إلى استقدام علماء من جبل عامل لتدريس الفقه الإمامي، فكان منهم بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن عبد الصمد (953 ـ 1031هـ) الذي أصبح شيخ الإسلام في أصفهان في عهد الشاه عباس الكبير، والمحقق الكركي علي بن الحسين بن عبدالعالي العاملي، (ت 940هـ ـ 1533م)، وغيرهم من الأئمة الأعلام.


وفي العصر الحديث، ولا سيما بعد النهضة التي أحدثها الإمام موسى الصدر في الواقع الشيعي، ازداد رصيد الشيعة من الغنى الثقافي، وتزايد أعلام العلم الفكر منهم في المجالات كافة، وازداد حجمهم الاقتصادي، وتضاعف مرات عديدة دورهم التنموي داخل وطنهم لبنان، وفي بلاد الاغتراب.


اختزال التمثيل

لم يحدث في تاريخ الشيعة الحديث أن اختُزل التمثيل السياسي للطائفة إلى هذا الحد، فلطالما كان التنوع السياسي والفكري داخل الطائفة الشيعية شديداً، ومن فترة الصعود الشيوعي، وصولاً إلى المد الإسلامي، مروراً بالأحزاب والأفكار القومية، كان الشيعة متنوعي المشارب والاتجاهات، ولم يكن تمثيلهم السياسي مختزلاً، حتى خلال فترة الإقطاع السياسي، حيث كان الشيعة عماد الحركات اليسارية والقومية، وكان اتصالهم بمحيطهم العربي وثيقاً.


شبه الأحادية في التمثيل السياسي للشيعة اليوم لافت للنظر، صحيح أنه توجد "أصوات" شيعية تتعارض مع الاتجاه الأحادي الذي يقوده "حزب الله"، لكن الصحيح أيضاً أن الحزب نجح في شد عصب الطائفة خلفه، جارفاً ما تبقى من كتلة تمثيلية لحركة أمل وباقي الشخصيات والقوى الشيعية، وبوجود حالة التخوف المتبادل بين الشيعة وباقي الطوائف، بات خطاب الحزب ومؤسساته كأنه الحامي والحاضن للشيعة اليوم.


قد يقول قائل، إن شأن الشيعة اليوم كباقي الطوائف في التمثيل السياسي، استناداً إلى التمثيل النيابي لدى كل من السنة والدروز، لكن النظرة الفاحصة للحركة السياسية "المعارضة" لدى السنة، وبنسبة أقل لدى الدروز، فضلاً عن التنوع الكبير لدى المسيحيين، تفضي إلى تهافت مثل هذه المقاربة، والأهم في الموضوع، أن الأحادية التي "يتمتع" بها "حزب الله" لدى الشيعة تقودهم إلى "مكان" خارج الدولة، و"اضطرار" حركة أمل لمجاراة الحزب في توجهاته يهدد "الإنجازات" كافة التي حققتها الحركة في مجال تحسين وضع الطائفة داخل الدولة.


الارتباط بولاية الفقيه

في الإشارة إلى الفوارق بين واقع الشيعة اليوم وغيرهم من الطوائف، تبرز "نظرية ولاية الفقيه"، غير الموجودة لدى أي من الطوائف الأخرى، صحيح أن كل الطوائف اللبنانية ترتبط روحياً بمرجعيتها الدينية سواء داخل لبنان أو خارجه، لكن ليس ثمة ارتباط ديني ـ سياسي كما هو حال ارتباط "حزب الله"، وتالياً من يمثل، بالولي الفقيه في إيران، مع ما يحمل ذلك من إشكالية ربط الشيعة وتالياً لبنان بالمخاطر التي تتعرض لها "الجمهورية الإسلامية"، والصراعات الدولية التي تكون إيران طرفاً فيها، وأخطر من كل ذلك جعل الشيعة في لبنان جزءاً مرتهناً لسياسات ومصالح أخرى، مقابل دعمهم بالمال والسلاح عبر الحزب الذي يقود حركتهم السياسية، إضافة إلى أن ذلك يفتح باب اتهام باقي اللبنانيين لهم أنهم يؤثرون إيران على مصلحة بلدهم وشركائهم في الوطن، فضلاً عن أن "تذويب" كل الشيعة في مشروع "ولاية الفقيه"، التي لم تكن متبعة في الفكر الشيعي منذ "الغيبة الكبرى" ولغاية منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، يحيلها خطراً على الطائفة، ولا سيما أنها موضع خلاف كبير.


الارتباط بالسياسة السورية

من الفوارق الحالية بين الشيعة ـ بقيادة "حزب الله" ـ وباقي الطوائف، الارتباط بالسياسة السورية المتحالفة أو المستتبعة للسياسة الإيرانية، ذلك أن الشيعة باتوا حالياً الطائفة الكبيرة الوحيدة المرتبطة بالنظام السوري، بعدما انضم السواد الأعظم من السنة والدروز إلى عموم المسيحيين في رفضهم النفوذ السوري المباشر في لبنان، ولا سيما بعد استشهاد الرئيس الحريري، فبات الشيعة بهذا المعنى يمثلون حالة فريدة يبرّرها "حزب الله" بمقارنته بين الارتباط بالمحور السوري ـ الإيراني، والارتباط بالمحور الأميركي ـ الفرنسي، ليخلص إلى أن المحور الأول أفضل لأنه عربي إسلامي، بينما الثاني غربي صهيوني معادٍ.


ومع أن المقارنة فاسدة بالأساس لأن ارتباط "حزب الله" بإيران ارتباط عقدي ـ سياسي ـ وجودي، وارتباطه بسوريا "ضرورة سياسية" لا يستطيع التخلي عنها، في حين أن ارتباط الأطراف الأخرى بأميركا أو فرنسا غير المتحالفتين أصلاً، هو ارتباط مصلحي، هذا إذا سلّمنا بوجود هذا الارتباط أصلاً، لكن مع كل ذلك فإن ربط طائفة كاملة بمصالح محور معين يثير حساسية باقي الطوائف ويهدد حالة التعايش معها، فكيف إذا كان هذا الارتباط مع نظام متهم من قبل غالبية اللبنانيين بأنه مسؤول عن الجرائم التي ارتكبت وما زالت ترتكب في لبنان، فضلاً عن مسؤوليته عما ارتكب من "أخطاء" خلال سنوات طويلة من بسطه هيمنته بالقوة والقهر على جاره الشقيق لبنان.


الانفصال النفسي والاجتماعي

بعيداً عن الشق الإسلامي والخيار المقاوم والمضيء في مشروع "حزب الله"، فإن مشروعه السياسي بات يحمل راهناً مخاطر شديدة على الشيعة وتالياً على لبنان، وما نراه اليوم من حالة الاستنفار المذهبي هو أحد هذه المخاطر، وليس كلها، فإذا ما أضيف إليها، تفرّد مشكو منه داخل الطائفة الشيعية، ومحاولة "تذويب" كل الشيعة في "ولاية الفقيه"، والارتباط بالمحور السوري ـ الإيراني الذي يثير حساسية باقي اللبنانيين، تصبح الحالة النفسية والسياسية التي يمر بها الشيعة أكثر فهماً، ويصبح الحديث عن المخاطر أكثر واقعية، ذلك أن حالة الانفصال النفسي والاجتماعي بين الشيعة وباقي الطوائف قد بلغت حداً لم تبلغه خلال الحرب الأهلية الأليمة، لجهة العموم والحدة، حتى إنه بات شائعاً في مناطق لبنانية عديدة لم تعرف سابقاً حالة الاحتقان الطائفي والمذهبي الموجود، أن الناس لم تعد تتعامل مع بعضها في البيع والشراء وعلاقات العمل إلا بحدود الضرورة، فضلاً عن توقف علاقات المصاهرة التي كانت رائجة ولا سيما بين السنة والشيعة، ما يشي بمخاطر هائلة إذا انفلتت الأمور، لا سمح الله.


الفتنة والحرب الأهلية

حالة "الانفصال الوجداني" و"الخوف المتبادل" بين مكونات الوطن، في ظل ظرف إقليمي دقيق، وفتنة دامية في العراق، وحذر شديد من إيران، وجهات عديدة تعمل على الفتنة في لبنان... كل ذلك يشكل معطيات "مخيفة" للوضع اللبناني.


قد يقول قائل إن اللبنانيين تعلّموا من الماضي، بدلالة المواقف التي حصلت غداة استشهاد "الزيادَين" قبل أيام، ربما، ولكن الجريمة بحد ذاتها، وبغض النظر عن أي معطيات ذات صلة بعمل أجهزة مخابراتية ما، فإنها كشفت عن مدى الاحتقان غير المقتصر على فريق دون آخر، وإذا كانت المواقف على مستوى السياسيين وعلى رأسهم وليد جنبلاط وسعد الحريري قد اتصفت بالحكمة البالغة، فإن انفلات الشارع قد يجرف معه كل خطابات التهدئة، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار بعض الإعلام الذي تجاوز حدود التعبئة إلى إطار التحريض المجرّم، والشحن الذي ينكأ جراح الحرب ليوظفها في خدمة التوتير الذي لن يفضي إذا استمر إلا إلى حرب جديدة، وقد باتت عواملها الداخلية من "انفصال وجداني" وأزمة سياسية مستحكمة، وتقويض لمؤسسات الدولة، وغياب للحوار، ووجود للسلاح... باتت كلها موجودة ومعلّقة على عوامل إقليمية لتنتج حرباً، أين منها الحرب الماضية، وفي هذه الحالة أيّ خطر ستحمله هذه الحرب على لبنان، وهل سيكون الشيعة بحكم أن "حزب الله" مسلح بشدة، بمنجاة عن المآسي؟، تجارب الحرب السابقة تفيد أن كل الطوائف في لبنان قادرة على التسلح والقتال الشرس إذا شعرت بأن وجودها بات في خطر.


استجلاب تدمير لبنان

ثمة خطر آخر يحمله مشروع "حزب الله" يتمثل بحرب مدمرة قد يجرها على لبنان رغماً عن قرار الدولة أو باقي اللبنانيين، وربما لأهداف إقليمية لا شأن للبنان بها، تقوم فلسفتها على ربط لبنان بالصراعات الإقليمية على اعتبار أنه "لا يمكن أن ينفضل لبنان عن محيطه" وأنه لا يمكن "أن يكون في لبنان مشروع 17 أيار جديد" وغير ذلك من "الكلام الكبير" الذي لا مانع من مناقشته والتحقق من مدى صحة ربطه بأي قرار تجاه عدونا "إسرائيل"، لكن في إطار الدولة ومؤسساتها لأن اللبنانيين لم يفوّضوا "حزب الله" ـ وهو حالة سياسية خاصة وسلاحه ذو طبيعة مذهبية ـ أن يقرر باسمهم ويأخذهم إلى الحرب ساعة يرى ذلك مناسباً، كما جرى في 12 تموز الماضي، و"حزب الله" إن فعل ذلك مرة أخرى، فالخراب الذي سيحدثه العدو الصهيوني سيكون أكبر على ما يبدو، لكن الأخطر أننا سنفقد ما تبقى من وحدة وطنية، وسيعجز النسيج اللبناني عن تأمين الحاضنة الشعبية التي تؤوي النازحين كما في الصيف الماضي، عندها يقع "الشقاق" الأقسى ربما في تاريخ لبنان، لا سمح الله ألف مرة.


التدويل والفدرالية وانهيار الاقتصاد

خطر آخر، يتمثل بالمزيد من التدويل للأزمة اللبنانية والمزيد من الانهيار الاقتصادي من جراء غياب الحلول وسيطرة شبح الحرب، وعندها تصبح الفدرالية الذي يتهم "حزب الله" الخائفين منه بالسعي إليها، واقعاً يُسأل عنه الحزب نفسه، لأن المس بالأسس التي انتهت الحرب الأهلية بناء عليها من شأنه إثارة الرعب لدى باقي الطوائف، ولا سيما المسيحيين الذين يعانون من اختلال حجمهم الديمغرافي، وقد يرون عندها أن ديمقراطية العدد كما توحي تصرفات ومواقف "حزب الله" الأخيرة، لا تحميهم، ولا سيما أنهم يرون دولة ذات طبيعة مذهبية خاصة إلى جانب الدولة التي يتهدد وجودهم فيها، الأمر الذي يجعلهم ينتقلون من "فدرالية الطوائف" القائمة حالياً بشكل أو بآخر، إلى المطالبة بالفدرالية كنظام حكم سياسي، ويخسر كل اللبنانيين تالياً هذا المزيج الفريد، وربما تفقد بعض القوى الممثلة لطوائفها دورها وتنتقل صراعاتها إلى داخل فدراليتها فيصبح "الكيان الفدرالي" غير قابل للحياة!.


...مشروع المقاومة والشيعة في العالم

وأخيراً ماذا يبقى من مشروع المقاومة المنير الذي دفع الحزب من أجله مهجاً ودماء، في ظل كل هذه المخاطر التي يجرها المشروع السياسي لهذا الحزب على الوطن الذي مات شهداؤه من أجله؟، وأي خطر يجره على شيعة العالم المنثورين في بحر سني كبير، إذا استُنسخت الفتنة المذهبية في العراق؟ وكيف عندها يمكن التمييز بين سلاح المقاومة وسلاح الفتنة وسلاح الطائفة وسلاح الإرهاب؟!.


إن الاندماج في مشروع الدولة يبقى الخيار الأسلم للجميع، و"حزب الله" معني اليوم بقراءة نقدية لمساره السياسي مذ قرّر الدخول في تفاصيل السياسة اللبنانية قبل نحو عامين، وإلا فإن الطائفة الشيعية لا بد لها من أن تخرج من هذا الواقع الذي وضعها "حزب الله" فيه لمصلحة نفسها، ومن أجل بقاء لبنان، منارة التنوع في هذا الشرق المضطرب، والحال خلاف ذلك سيكون مؤلماً للجميع.

(*) كاتب في الشؤون الإسلامية

عودة لزاوية مساحة حرة

*** المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها***