نقولا نصر(*)

الأزمة السياسية، الطارئة والمفاجئة، التي أطلت على لبنان منذ عشية حرب تموز 2006، حان وقت النظر الى حقيقتها، من دون مواربة أو نقصان. ولم تعد القصة قصة معارضة وموالاة، بل تخطت كل الأطر، التي تحكم نظام لبنان الديموقراطي البرلماني، وكل المقاييس الأخلاقية، بحيث راحت المعارضة، المسماة لبنانية، منذ البداية حتى اليوم، ويوماً بعد يوم، تتآمر تصاعدياً على الجمهورية وثوابتها، هكذا بكل بساطة، وهو أمر تستدعي مواجهته بشجاعة، كي يستعيد لبنان وضعه الطبيعي على مختلف الصعد.


في خضم معركة الاستحقاق الرئاسي، الذي ينبغي أن يتم في موعده الدستوري وفي شكل سليم، قبل 24 تشرين الثاني المقبل، وفي هوامشه السياسية، رحنا نسمع نظريات عجيبة غريبة ونشهد طروحات وعرض عضلات، غير مقبولة، تمسّ في الصميم البديهيات الوطنية، التي لا يجوز لأي كان تجاهلها وإنكارها والتذاكي عليها.


لحود الجاني على الجمهورية!

ليس صحيحاً على الاطلاق أن هناك في لبنان منذ 3/9/2004، تاريخ التمديد المشؤوم، حتى اليوم، رئيس جمهورية يستحق فعلاً هذا المنصب، لماذا؟ لأنه يمعن في شرشحة البلد المؤتمن عليه، عبر مجمل أفكاره الشخصية، عدم ممارسة صلاحياته وفق الأصول، وابتكار صلاحيات له غير موجودة أصلاً. وهو تحول من حكم الى فريق يهوى زرع الانقسامات، بتحامله المجنح على مجلس الوزراء، الذي هو سلطة قائمة في حد ذاتها، على مجلس النواب، الذي هو من حيث المبدأ أبوه وأمه، وعلى الأكثرية صاحبة القرار النافذ، شاءت أم أبت الأقلية المعارضة، وهو مغامر متآمر على أمن لبنان. في الخامس من الجاري، نطق بكلام، عبر مقابلة أجراها معه التلفزيون الأميركي ­ اللاتيني والكوبي، يلامس الخيانة الوطنية العظمى، حيث أعلن تمسكه بسلاح "حزب الله" ومقاومته، "حتى يتحقق السلام العادل والشامل والدائم في المنطقة".

 

هل أمن لبنان مرتبط بهذا السلام الشامل؟.

ليدلّنا هذا الرئيس القاصر على رئيس دولة عربية أخرى، يعرض بلده بهذا الشكل للخطر الدائم. ولو! أيجهل أن سيّده بشار الأسد مثلاً لا يسمح بهذه السياسة المجنونة، حيث لا مقاومة في الجولان المحتل، منذ العام 1974 حتى اليوم؟


يقول إن "المقاومة باقية طالما أننا في حالة حرب مع إسرائيل، مقاومة حزب مسلح يتحدى السلطة؟. هل يقول ذلك أي رئيس دولة عربية أخرى؟ يتحدث عن "انتصار" في حرب تموز، علماً أن لبنان كان مهزوماً، على المستوى اللبناني الصرف، إذ أن الأسرى في إسرائيل باقون هناك، ومزارع شبعا باقية تحت الاحتلال، في مقابل 2000 قتيل سقطوا في لبنان، والدمار الهائل الذي تكبّده لبنان من جراء العدوان الإسرائيلي، الذي استدرجه وعد حسن نصرالله "الصادق"!.


عالم "حزب الله" الآخر!

أطلّ علينا أمين عام "حزب الله"، في خطاب ألقاه في الثاني من الجاري، كي يحدثنا فقط عن هزيمة إسرائيل في حرب تموز، مبدياً اعجابه بتحقيق "لجنة فينوغراد".

صحيح أن "حزب الله" ألحق خسائر بعدو العرب. لكن لماذا يتجاهل كلياً الكارثة التي حلّت بلبنان؟ قال إن "القيادات الإسرائيلية جديرة بالاحترام؟ لكن أين هو الاحترام الذي خصّ به هو بلده؟ وبدل أن يحاسب نفسه، ويحاسب حزبه، راح ينتقد الأكثرية النيابية والحكومة، لأنها لم توقع على مغامراته.


ولأنه مصر على التعتيم على هفواته وأخطائه، وعلى تمسكه بسلاحه، بعد كل ما جرى في لبنان، يؤكد لنا "حزب الله" أنه عاكف على متابعة تدريباته وتعزيز جهوزيته، استعداداً لجولات أخرى من المغامرة بالأمن اللبناني؟ لماذا كل هذا التمادي في مقاومته الملحة، بعد أن انتشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل؟ استعداداً لحرب جديدة، هو الآن في صدد خلق ذرائع جديدة لها؟ يستغني لبنان عن حربجية هذا الحزب و"حماسه". وبدل تمسكه بسلاحه، عليه التفكير جدياً بتسليمه كله الى الدولة اللبنانية، من دون أي شروط مسبقة، ومن دون أي جوائز ترضية.


الدور الوحيد الذي يلعبه ذلك السلاح، بعد حرب تموز، في لبنان هو توظيفه في السياسة الداخلية كوسيلة ضغط لجني المكاسب على حساب المصلحة الوطنية العليا.

بالأمس كان ميدان هذا الصراع الجانبي مركزاً على موضوعي حكومة ومحكمة، وهو تحول اليوم الى عنصر استقواء في معركة الاستحقاق الرئاسي. يريدون الرئيس المقبل نسخة طبق الأصل عن لحود، الحاضن لكل سلاح غير شرعي. سأل أحدهم:

"لماذا لا تقبلون بميشال عون رئيساً توافقياً؟ ميشال عون الفريق؟ جميل جداً أن يتحول هذا الحزب الناشئ، غير المجرب سياسياً، الى تحديد المرشحين الأفضل لموقع رئاسة الجمهورية المارونية.


برّي المستقيل من منصبه

ما زال رئيس مجلس النواب نبيه بري يتصرف، منذ 11/11/2006 كمستقيل فعلاً من منصبه. هو مداوم على اعتصامه في "عين التينة"، وعلى إقفاله المجلس. لم يبقَ من الدورة الحالية، التي بدأت في 20 آذار الماضي، الا أسبوعان. والمجلس باقٍ مقفلاً، يتصرف فقط كرئيس لحركة "أمل"... وما دامت الحال كذلك، لماذا لا يخلي موقع الرئاسة الثانية؟ يتهم حكومة الرئيس السنيورة الدستورية بـ"البتراء"، وهو اللاغي كلياً للمجلس الذي يرأسه.


كيف ولماذا يحصل كل ذلك؟ يكفي تصفح "النظام الداخلي للمجلس النيابي"، الذي أقر بصيغته الأولى في 18/10/1994، وأجريت عليه عدة تعديلات، حصل آخرها في 21/10/2003. من أشرف على دوزنة هذا النظام، الغني بالثغرات الكبيرة جداً؟ الرئيس بري نفسه، الذي تولى رئاسة المجلس من دون انقطاع منذ العام 1992 حتى اليوم، نجد في هذا النظام المركز على العموميات ثغرات جسيمة. "هيئة مكتب المجلس" لا تتمتع إلا بصلاحيات شكلية. أما اجتماعات المجلس الإلزامية، التي ينبغي أن تحصل في دوراته العادية والاستثنائية، فلا تحديد ولا ضوابط لها، لهذه الأسباب مجتمعة تصرف ويتصرف رئيس المجلس كملك مطلق الصلاحيات. من هنا الغياب المطلق المفروض من قبله على السلطة التشريعية والرقابية. ملاحظة، بل طرح استطرادي: المطالبة بتعديل الدستور، بحيث يحظر التمديد لرئيس مجلس النواب، إسوة بما هو حاصل بالنسبة الى رئيس الجمهورية، والالتزام بهذا الحظر في جميع الأحوال، ومن دون أي استثناء، بالنسبة الى الموقعين المذكورين...


رئيس الجمهورية الأسوأ

في أي بلد ديموقراطي في العالم، تجري الانتخابات الرئاسية في جو سليم، عندما يتم التقيد بالأصول الدستورية والقانونية، حيث يكون هناك تنافس بين عدة مرشحين. لكن الاستحقاق الرئاسي، موضوع الساعة، يجري التعامل معه بطريقة لا تحكمها أي ضوابط.
 

فالبارز، في السجالات الدائرة حوله، ليس استعداد جميع النواب للمشاركة في جلسة أو جلسات انتخاب الرئيس، بل سلوك المعارضة خط التعطيل، نصاباً أو عبر طروحات أخرى، لا وجود ولا مكان لها في الدستور اللبناني. فبدل قرع المعارضة طبل التعطيل، الطاغي عليها، عبر الإصرار على "كعيوة" الثلثين (والمادة 49 من الدستور هي في غاية الوضوح، إذ أنها لا تنص على أي نصاب معيّن لجلسة الانتخاب، بل تنص فقط على طريقة الانتخاب: حصول المرشح على ثلثي الأصوات في الدورة الأولى، ثم على النصف زائد واحد على الأقل في الدورة الثانية أو الدورات اللاحقة)، لماذا لا يحضر جميع النواب تلك الجلسات؟ وكان هذا الأمر يحصل تلقائياً عبر الاستحقاقات الرئاسية السابقة. هذا السلوك الايجابي يدل وحده على النوايا الحسنة، ويعفي البلد من خضات لا معنى ولا مبرر لها.


الترشح للمنصب الرئاسي مفتوح أمام جميع الطامحين اليه. وهناك مرشحون لم تعلن أسماؤهم علناً حتى اليوم. لكن هناك مرشح راح يسوق نفسه في جوّ من التحدي والغرور، لا سابق له في لبنان، يتجرأ على القول إنه لا يقبل أن يحل في قصر بعبدا سواه! وقد اختار الجنرال ميشال عون "قصر الرئيس لحود للمؤتمرات"، كي يدلي بدلوه حول الموضوع، في الأول من الجاري.


تحدث بعصبية وبلغة من يغادر، "لا أدري الى أين"، عن وصية "العودة الى صناديق الاقتراع، وليس الذهاب الى صناديق الخرطوش"، وهو يمارس الديموقراطية بذهنية العسكر، ويمكن اعتبار كلامه هذا تهديداً للمرشحين الآخرين وللأمن العام، وربما دعوة الى افتعال أزمة، أو للقتل. ولا بد للقانون من أن يحاسب صاحب هذا التحريض، يريد رئيساً "مفتاحاً للحل"، بيده علب خرطوش.

وفي جو "الخرطشة" والتهويل، استسهل الهروب من المجلس النيابي، واستبدله بوسيلة أخرى للوصول، داعياً الى استفتاء شعبي أو الى انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب "ولمرة واحدة"، تلبية لرغبات شخصه الكريم، الذي هو متأكد باستحالة تحقيق طموحه عبر مجلس النواب، الذي ترفضه أكثريته.


وفي الرابع من أيار، أتحف عون اللبنانيين وقناة "العربية" بذروة فقدان توازنه وجنونه. بعد إشارته الى نية لديه بتحريك الوضع السياسي الداخلي، تحدث عن "صدمة" تصيب المسيحيين، إذا تم انتخاب غيره! وأضاف: "لن أوافق على أي مرشح آخر". أي أنه لعبها "دوبلي حمام"، لعبة المرشح الواحد والناخب الواحد.


وقال أيضاً "وحيد قرنه" اثنين متلازمين: "الرئيس في لبنان يجب أن يكون ذا صفة تمثيلية... لا أحد غيري يمثل الشارع المسيحي". صحيح أن الجنرال أصبح نائباً ولديه نواب في المتن وكسروان وجبيل وزحلة. لكن هذه المقاعد غنم بها في لحظة غدر للشعب الذي يدعي تمثيله، قبل أن ينقلب 180 درجة في مجمل سياسته وتوجهاته.

هذه المناطق، التي يحتال عليها ويتاجر بها، لا بد أن توجه له ضربة موجعة في الوقت المناسب. هذه المناطق كانت الحصن الحصين لرواد الاستقلال الحقيقيين، لحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار والقوات اللبنانية والكتلة الوطنية... ولا مكان فيها لحلفاء سوريا الأشاوس، أو لمقاومة "حزب الله".


لا يجدي التوقف فقط عند الحالات الخاصة الشاذة. الكل يكمل بعضه. واللعبة القذرة، التي تمارسها المعارضة، في جميع أطيافها، قد تكشفت في جميع مفاصلها وأبعادها.

معارضة ينحصر همها في ضرب النظام اللبناني وتدمير الدولة اللبنانية.

لا أفق سياسياً لها ولا برنامج يفيد الوطن. بل تلامس تحركاتها طابع الخيانة الوطنية العظمى.

عودة لزاوية مساحة حرة

*** المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها***