إشتهرت بيروت المحروسة بالمزارع والبساتين، لكنها تحولت هذه المزارع والبساتين بسبب التمدد العمراني إلى أبنية، للذكرى نسرد هنا بعض هذه المزارع:

المزارع:

مزرعة العرب، هي منطقة المزرعة اليوم.

مزرعة الأشرفية.

مزرعة رأس بيروت.

مزرعة رأس النبع.

مزرعة الصيفي.

مزرعة القنطاري.

مزرعة القيراط.

مزرعة المصيطبة.

مزرعة القيراط  

تقع هذه المزرعة خارج سور مدينة بيروت القديمة، وكانت منطقة زراعيّة بمجملها، غير أنها إستقطبت بعض الشخصيات المحليّة والأجنبيّة.

وكانت القنصليّة الإنكليزيّة تقع في هذه المنطقة، كما إتخذها مقراُ له كل من قنصل إنكلترا الجنرال الموسيو كومير باج وترجمانه اللبناني عزتلو إسبر أفندي شقير.

مزرعة القنطاري

كانت تقع هذه المزرعة خارج مدينة بيروت القديمة في الجهة الغربيّة منها. وكانت تضمّ الكثير من البساتين الزراعيّة التي كانت تُسمى عادة بأسماء أصحابها مثل:

بستان رزق الله.

بستان الموراني.

بستان الحاسبيني.

أو بأسماء منتجاتها مثل بستان البلحة. وكانت منطقة زقاق البلاط تابعة لهذه المزرعة.

وتعتبر منطقة القنطاري اليوم من مناطق بيروت الهامة، حيث كانت في الفترة الممتدة من عام 1943م إلى العام 1958م مقراً لرئاسة الجمهوريّة في عهد الرئيسين بشارة الخوري (1943-1952) وكميل نمر شمعون (1952-1958). ولا يزال القصر الرئاسي القديم موجوداً فيها إلى الآن. وقد إنتقلت ملكيته إلى رفيق الحريري، كما أصبحت فيما بعد منطقة هامة تتواجد فيها الفنادق السياحيّة الفخمة التي دمرت إبان الحرب اللبنانيّة.

أما (مجلس القنطاري)، فمرد التسمية إلى أن القائد العُثماني محمد فؤاد باشا فرض على الدروز بعد أحداث عام 1860م مبالغ من المال كتعويض تدفع للنصارى. وبالفعل فقد جمع الدروز هذه الأموال وسددت لخزينة بيروت التي سبق لها أن دفعت التعويضات. ولكن بقيت مبالغ من الأموال من حق الدروز قدرت بسبعين ألف قرش تعذر إعادتها إليهم. فارتأى محمد فؤاد باشا أن يشتري بها بيتاً كبيراً في بيروت برسم عموم الطائفة الدرزيّة، فوافق الدروز على هذا الرأي، فابتاعوا بيتاً بسبعين ألف قرش وسموه (المجلس القنطاري) فكان مأوى لأفراد الدروز النازلين من الجبل إلى بيروت ينامون فيه ويتلون الصلوات في كل ليلة.

مزرعة رأس بيروت

يتبين من مراجعة وثائق المحكمة الشرعيّة في بيروت أن منطقة رأس بيروت ضمت عدة محلات فرعيّة، وقد غلب على تلك المنطقة إسم مزرعة لإنتشار البساتين وزراعة الخضار فيها.

قال شاعر بيروت المرحوم أمين لادقي:

في منهل العلم أشواطاً مشيناها في رأس بيروت أياماً قضيناها

كان الجمال وكان الفن يغمرنا    من جنة الشعر أبياتاً رويناهـا

لوحات أنس وأحلاماً رأيناهـا

                                                                    

يروي المعمرون عدة حكايات وواقعات عن تلك المنطقة. ويذكرون فيها بيت المرحوم المبرور محمد عبد الله بيهم صاحب شعار (تعلّم يا فتى فالجهل عارُ) الذي إستفاقت بيروت ذات صباح من سنة 1909م لتجده مكتوباً على جدران الأبنية. وقد تفنن في الحضّ على التعليم بوسائل مختلفة كالتبرع للجمعيات في بيروت ودمشق وحلب، وتقديم ساعات ذهبيّة للأوائل في الصف النهائي، وقد نالها الأديب عمر فاخوري والشاعر عمر الزعّني والأديبة عنبرة سلام الخالدي. كما نظم مقطوعات على وزن أغنية الأولاد في الأعياد ومطلعها (يا ولاد محارم يويو) وطبعها على أسطوانات. ووقف بيته على تعليم الفقراء.

كان البيارتة يقصدون رأس بيروت للنزهة ويتناولون الخضار والخسّ دون غسلها لعدم وجود الماء في تلك المنطقة وإن وجدوا ماء فهو ماء النواعير القذرة التي تنشر جراثيم الأمراض المعدية إضافة إلى طرح النفايات وبقية الأقذار في البساتين للتسميد. وكان من نتيجة ذلك أن إنتشرت حمى التيفوئيد سنة 1910م كما أثبته محضر جلسة بلديّة بيروت ـ الدائرة الشرقيّةـ ، (كان لبيروت سنتها دائرتان للمجلس البلدي، شرقية رئيسها بطرس داغر وغربية رئيسها منيح رمضان) المنعقدة برئاسة بطرس داغر وحضور الأعضاء حسن قرنفل وجرجي رزق الله ونصري أرقش وإميل كفوري وسعيد أبو شهلا (من أعضاء الدائرة الغربيّة) وعثمان النقيب وعبد الحفيظ طبارة (من أعضاء الدائرة الشرقيّة)، فتلي كاتب الكتّاب قنصل الولايات المتحدة الأميركيّة المؤرخ في 8/2/1910م المتضمن ظهور مرض الحمى التيفوئيديّة في مكتب الأميركان الكائن في محلة رأس بيروت، وفي بعض بيوت المحلة المذكورة.

وأوضح الدكتور هوارد بلس رئيس المدرسة الكليّة (الجامعة الأميركيّة) أن عدد الطلاب الذين أصيبوا بالحمى بلغ خمسة وعشرين طالباً أرسلوا إلى المستشفى البروسياني (الألماني).

فقرر المجلس إلزام أصحاب البساتين بطمر النفايات وسد مصارف المياه القذرة، ومنع بيع الخسّ والفجل والبقدونس والنعناع والكزبرة وما شاكلها من الخضار التي تؤكل نيئة بناء لتقرير طبيب البلديّة الشرقيّة الدكتور حبيب شحلاوي الذي أثبت أن المرض ناجم عن أكل الخضار الواردة في رأس بيروت واخصّها الخسّ.

نظم أسعد رستم من وحي الحمى المذكورة قصيدة بعنوان (التيفوئيد وبيروت) مطلعها:

      فكلا الحالتين تيفوئيدُ      أصداعٌ أم إنحلالٌ شديدُ                                                                  

ويقول فيها:

ليت ما كان نبتك المعهــود       رأس بيروت كم قطعت رؤوساً

فلقد أوشكت تضيق اللحـود      أيها الفجل أيها الخسّ مهــلاً

لم يعد يرتضي (المجيدي) المجيد         واغتنى منكما الأطباء حتــى

ما له عندهم علاجٌ سديــد        يا لداء فيه الأطباء حــارت

فهو في كل موضع موجـود     ليس يخلو منه ببيروت بيـتٌ

أنفسهم بالذي يشاء ويريــد      والأهالي قد سلّطوه علـــى

فهم لهم في كل شيء عبيــد     مثلما سلّطوا عليهم ظلامــاً

ولها الحمد والثنا والسجــود     إن حكامهم تجور عليهـــم

   إن كان الخسّ أساء إلى سمعة مزارعي رأس بيروت، فإن الفجل عوّض الإساءة ففي سنة 1899م استخرجت من بستان نصري الغرزوزي فجلة كبيرة بلغ طول جذعها سبيعن سنتمتراً وطولها برمّتها 155 سنتمتراً وبلغ وزنها عشرة كليوغرامات حتى أن أحد الباعة باع واحدة منها أجزاء متفرقة، ولعل هذه الفجلة هي التي عناها الشاعر بقوله:

وفي عيني الحنّا وفي رجلي الكحلِ        تعمّمت بالكانون من فوق جبةٍ

وما عشّش الجاموس في ورق الفجلِ عليك سلام الله ما طار سلحفٌ

وصحّ فيها قول البيارتة في أمثالهم (أرخص من الفجل : التراب والزبل).

يذكر أن البيارتة كانوا يؤرخون أحوالهم من زواج وولادة وختان ووفاة بحادثة أو واقعة معينة وكان أهالي رأس بيروت يلفظون الكاف أحياناً همزة ليّنة مخفضة، يكسرك: يئسرك، بكيّر: بئير. وقد أجابت سيدة منهم حين سألوها يوم عقد قران إبنتها كم هو عمر العروس؟ أجابت: من الفجلة البئيرة (أي الباكرة) أي يوم زرعوا الفجل في أول الموسم.

ولما كان أكثر سكان رأس بيروت من المزارعين، فقد شيّع بعض الخبثاء أنهم تقدموا بشكوى ضد الشمس بحجة أنها تضايقهم صباحاً (نورها في وجوههم) عندما ينقلون منتجاتهم صباحاً إلى وسط المدينة، شرقاً، وتكون في وجوههم عندما يعودون بعد الظهر إلى بساتينهم ودورهم، غرباً، فنحصهم الوالي بالتوجه إلى المدينة قبل طلوع الشمس والعودة إلى دورهم بعد غياب الشمس.

ولا بد أن نذكر أخيراً المثل الذي نقل عن المرحوم عمر الداعوق وهو قوله (خسّ زراع ولا تبيع من أرضك ذراع) وقد تبين صحة حدسه لأن أسعار الأراضي في بيروت فاقت أسعار الأراضي في نيويورك وغيرها.

كان من الطبيعي مع كثرة المزارع والبساتين أن يكثر العلف وأن تروج تربية الأبقار وإنتاج الحليب ومشتقاته، من هنا لقّب أحد الباعة من آل الداعوق باللبّان وهي عائلة بيروتيّة معروفة، وقد شكا أهالي رأس بيروت ذات يوم مما كانوا يعانونه من باعة الحليب مع شدة إحتياجهم إليه. فإن أحد باعة الحليب كان يبيع في بيته أنواعاً منوعة. فما كان نصفه ماء فثمن الرطل أربعة قروش، وما كان ثلثه ماء فالرطل بخمسة قروش، وما كان ربعه ماء بستة قروش، محتجاً بأن زبائنه كثيرون ولا يمكنه بيع الحليب بدون ماء.

أشار الشاعر عمر الأنسي إلى بائع حليب يقال له الشيخ بحر كان يبيع الحليب المغلي في القدور ويمزجه بالماء حتى لا يبقى فيه من شبه الحليب سوى اللون. فقال فيه:

في الناس أشهر من نارٍ على علم         للشيخ بحر كرامات قد إشتهرت

غرفاً من الحبر أو رشفاً من الديم         قدورهُ من حليب بات يملأهــا