تقع بيروت على ساحل مميز، يتضمن بعض الخلجان والأجوان، وقد سهّل هذا الموقع إنشاء مرافئ في بيروت وفي بقية المدن الساحليّة الشاميّة، وبيروت من المدن القديمة، ويعود نشاطها إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين ويستدل على ذلك من سورها العتيق الذي كان يوازي في القديم شاطئ البحر، فكان يمنع تدفق المياه على داخل البلدة.
ولقد نشأ في بيروت مرفأ هام منذ العهد الفينيقي، على غرار مرافئ صيدا وصور وطرابلس وسواها، كما إتخذها الإفرنج مقراً لسفنهم وعساكرهم، ولما خضعت بيروت للحكم الإسلامي، كان ميناؤها مركزاً لصناعة السفن الإسلاميّة لا سيما في عهد معاوية إبن أبي سفيان.
كان مرفأ بيروت من المراكز الإستراتيجيّة الهامة في المنطقة، ذلك أن من يستولي عليه يستطيع التقدم نحو المدينة وبقية المناطق، لأن أكثر العمليات العسكرية كانت تتم بواسطة البحر، وبعضها الآخر بواسطة البر، ولهذا حرص الإفرنج في العصور الوسطى بعد سيطرتهم على بيروت ومدن الساحل، على الاهتمام بتحصين مرفأ بيروت، وبالتالي تحصين المدينة، ليتمكنوا من الدفاع عنها ضد المسلمين.
ولما إستعاد المسلمون بيروت ومدن الشام، حرص الأمير بيدمر الخوارزمي، المتوفى سنة 1387م، على الاهتمام بمرفأ بيروت وتحسينه، لا سيما وإنه إستخدمه لصناعة السفن الحربيّة، فأمر بقطع الأخشاب من حرج بيروت، لصنع الشواني والسفن، فصنعها ما بين المسطبة (المصيطبة اليوم) وساحة بيروت والميناء، وكان الأمير فخر الدين المعني قد أمر بردم مرفأ بيروت تخوفاً من الأسطول العثماني واتقاء لهجماته.
ولما سيطر العثمانيون على بيروت وبلاد الشام، شعروا بأهمية مرفأ بيروت، كما شعرت الدول الأجنبيّة بأهمية هذا المرفأ، سواء على الصعيد الاقتصادي أم على الصعيد الإستراتيجي، ولهذا بدأت أهمية بيروت كمدينة ناشئة تظهر بوضوح، وفي القرن الثامن عشر الميلادي بدأت بيروت تحتل مكانة اقتصادية بارزة، وأصبحت أكثر مدن الساحل الشامي تجارة وسكاناً وذلك بفضل مينائها وعوامل اقتصادية أخرى، وهذا ما دفع التجار الأجانب لا سيما الفرنسيين المقيمين في صيدا، الكتابة إلى حكومتهم في عام 1753م وقد طالبوا إرسال بعض التجار والصنّاع إلى بيروت وجوارها من بين الذين يفهمون في غزل القطن لتوجيه الصناعة والتجارة بأسلوب مناسب.
أشارت الدراسات التاريخيّة والتقارير القنصليّة بأن مرفأ بيروت كان منذ القدم من أصلح الموانئ لرسو السفن، وهو الميناء الذي تجد فيه المراكب الأمان في جميع الفصول، وكانت السفن ترسو قديماً في داخله ، فيضع البيارتة العاملون في المرفأ (الصقالات) وهي ألواح عريضة من الخشب، ليستعملها المسافرون جسراً للنزول إلى البر، وإنزال البضائع على الرصيف.
أما السفن الكبيرة القادمة إلى مرفأ بيروت، فكانت تقف في الصيف تجاه بيروت، في حين تضطر في الشتاء للالتجاء إلى خليج سيدنا الخضر عليه السلام قرب الكرنتينا، أو عند مصب نهر بيروت.
وكانت منازل الأجانب، وبعض قناصل الدول الأجنبيّة، تقع في الجهة الجنوبيّة من ميناء بيروت، كما تركزت الكثير من الخانات (الفنادق) إزاء المرفأ وبجانبه، وذلك لتسهيل إقامة التجار والوافدين من الخارج، وأشارت التقارير والدراسات التاريخيّة إلى أن مرفأ بيروت لا سيما في القرن التاسع عشر، كان بمثابة خلية نحل حيث يلتقي التاجر البيروتي بالتاجر الفرنسي والتاجر الإيطالي والتاجر المالطي والتاجر النمساوي، كما يلتقي بتجار الإسكندريّة ودمياط والمغرب وتونس والجزائر، ويلتقي التاجر البيروتي بتاجر الجبل اللبناني والتاجر الدمشقي والحلبي والحمصي والحموي وغيرهم ....
وكانت حركة التجارة في ميناء بيروت حركة نشطة، حيث كان الجبل اللبناني يزوّد تجار بيروت بـ 1800 قنطار من الحرير، ويتم تصديرها عبر مرفأ بيروت بواسطة مراكب أوروبيّة ومحليّة، يُصدّر معظمها إلى دمياط والإسكندريّة والمغرب وتونس والجزائر، وتعود هذه المراكب محمّلة بالأرز، والكتّان والأنسجة وجلود الجواميس من مصر، وتحمل العباءات من تونس، كما تحمل من موانئ المغرب العربي بعض السلع الأوروبيّة التي تحتاج إليها بيروت ومدن الشام، ومن النمسا الطرابيش، وقُدِّر مجموع ما استوردته بيروت سنوياً في أوائل القرن التاسع عشر حوالي 200 ألف قرش.
ونتيجة لتطور التجارة في بيروت، وتزايد أهمية مرفأها، فقد ظهرت مرافئ متخصصة في المرفأ نفسه وبمحاذاته، ومن بين هذه المرافئ والموانئ :
◄ميناء الأرز
◄ميناء البطيخ
◄ميناء الخشب
◄ميناء القمح
◄ميناء البصل
وبسبب هذا التطور الاقتصادي الضخم لمدينة بيروت ولمرافئها، فقد حرصت الدول الأوروبيّة على اتخاذ مقار لها، بافتتاح قنصليات لم تكن موجودة في الأصل، ففي سنة 1822م افتتحت وزارة الخارجية الفرنسيّة قنصلية لها في بيروت، بعد أن صارت هذه المدينة مركزاً تجارياً واقتصاديا هاماً، وقد بلغ معدل السفن الإنكليزيّة في مرفأ بيروت 150 سفينة كل عام.
كانت قلعة بيروت الشهيرة بالقرب من الميناء، وهي تعتبر من الملامح الأساسيّة لميناء بيروت ، وقد أشار الرحالة محمد بيرم التونسي في كتابه (صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار) إلى مرفأ بيروت واصفاً إياه بقوله:
(فنزلت هناك، وكانت المرسى صعبة جداً، لبعد إرساء الباخرة عن الشط وركوبنا في زوارق مع هيجان البحر، وبعد أن خلصنا رحلنا إلى الكمرك (الجمرك) الذي لم نر من أهله إلا خيراً، دخلنا البلاد راجلين لقربها وعدم وجود ما يركب حول الكمرك، فدلني رجل من المتشبشين بخدمة المسافرين على منزل للمسافرين، قريب من جهة طريقنا، كاشف على البحر، فإذا هو منزل لأحد الإفرنج، مثل منازل أوروبا المتوسطة الحُسن، وأخذت به بيتاً واسعاً ذات حجرة للنوم والصناديق وحجرة للجلو ، وإغتسلت في حمامه وبتنا تلك الليلة والأكل فيه حسن ..... ).
إستأثر المرفأ بعدد كبير من المؤسسات الرسميّة العُثمانيّة، منها مبنى البنك العثماني ومبنى البريد وسواهما من المباني والمؤسسات، وبصورة عامة، فإن الاهتمام بدأ يتزايد تباعاً بمرفأ بيروت، ففي سنة 1863م تقدمت شركة (مساجيري مار يتيم) بمشروع مرفق بالخرائط لتحسين المرفأ، وقدمته لأحمد قيصرلي باشا، حاكم ولاية صيدا، حيث كانت بيروت تتبع لها، وقدرت نفقات هذا المشروع بستة ملايين وثلاثمائة وواحد وسبعين ألف وثلاثمائة فرنك، غير أن هذا المشروع لم يُنفّذ ولم يوضع موضع التنفيذ إلا عام 1880م بعد أن فشلت بلدية بيروت عام 1879م في نيل امتيازه، وبعد أن فشلت شركة طريق بيروت ـ مشق من الحصول على إمتياز هذا المشروع.
وبعد اتصالات مكثفة صدرت إرادة سلطانيّة مؤرخة في19حزيران عام 1887م نال يُوسُف أفندي المطران بموجبها إمتياز مشروع تطوير وتحسين مرفأ بيروت ولمدة ستين عاماً تنتهي في 19 تموزعام 1947م، وقد إشترط على صاحب الامتياز المباشرة بالعمل بعد سنتين وإنجازه في خمس سنوات على أن يكون طول الرصيف 1200 متر، واحتفظت الحكومة العُثمانيّة بحق إبتياع هذا المشروع بعد ثلاثين سنة، وإشترطت الإرادة السلطانيّة على السفن الداخلة إلى المرفأ دفع رسوم الدخول والرصيف ، أو دفع الرسوم إذا كانت هذه السفن لا تقترب من الرصيف.
وفي سنة 1888م تألفت الشركة العُثمانيّة لمرفأ بيروت وأرصفته ومخازنه، برأسمال قدره خمسة ملايين فرنك، وكانت هذه الشركة فرنسيّة مما أثار حفيظة الإنكليز الذين أشاعوا أن هذا الشروع غير مفيد، لعدم وجود خط سكة حديد بين بيروت والمرافئ الشاميّة.
بوشرت أعمال تحسين المرفأ عام 1889م وقامت بها شركة (وزي وطونن ولوزي)غير أن المشروع واجهته الكثير من التعقيدات، مما إضطر هذه الشركة للاستدانة من شركة خط حديد بيروت دمشق حوران، مبلغاً وقدره خمسة ملايين فرنك، لمتابعة أعمالها.
وبعد انتهاء مشروع تطوير المرفأ عام 1894م وقعت خلافات بين شركة المرفأ وبين الحكومة العُثمانيّة ووزارة البحريّة العُثمانيّة، ومن أسباب هذه الخلافات مسألة دخول البوارج الحربيّة العُثمانيّة إلى المرفأ، والخلافات بين شركة المرفأ وبين أدارة الجمارك بشأن رسم الحمالين والمخازن وتعيين حدود منطقة شركة المرفأ، كما وقع خلاف حول زيادة رسوم الدخول للمرفأ مما أثر على حركة الصادرات والواردات، حيث تحولت إلى بقية المرافئ الشاميّة القريبة، كما أن بُعد المسافة بين نهاية خط الحديد بيروت / دمشق / وبين مرفأ بيروت كان من جملة أسباب الخلافات بين الجانبين ومن أسباب تأثر حركة المرفأ التجاريّة.
والحقيقة فإن هذه الأزمة بين الجانبين سرعان ما انتهت، بل أن المرفأ ازدادت أحواضه وأرصفته ما بين رأس الشامية إلى رأس المدور، وبدأ يستقبل سفناً أكثر وأكبر إتساعاً بما فيها قوافل الحجاج، غير أن امتداد مشروع سكة الحديد إلى محاذاة رصيف المرفأ في أوائل القرن العشرين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، دعا الحجاج المسلمين للتوجه للحج إلى الأراضي المقدسة عبر هذا الخط.
ومهما يكن من أمر، فقد شهد مرفأ بيروت قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها تطوراً ملموساً أثر تأثيراً مباشراً في الحياة الإقتصاديّة البيروتيّة واللبنانيّة والشاميّة، ولا يزال بعض البيارتة يذكرون نزول الطائرات الخاصة المائيّة في مرفأ بيروت وذلك قبل إنشاء مطار بئر حسن في منطقة المدينة الرياضية اليوم.