السيران

كان للبيارتة، غير المواسم السنوية، أربعة أيوب، العيد والحرج نزهات أسبوعية كل يوم جمعة، يقضونها مع أولادهم وأصدقائهم، وكانوا يجهزون لها لوازم لا بدّ منها، فبخلاف الطعام وأكثره من المشويات، كانوا يحرصون على اختيار الحلويات العربيّة، بقلاوة، معمول، .... إلخ وكانت النرجيلة سيدة الرحلات فلا بدّ منها لترويق المزاج قبل الأكل وبعده، وكانت بعض العائلات تحضر معها (صوّيتا) أي شاباً من العائلة أو من أصدقائها، يحسن الغناء والعزف على العود أو البزق أو الدربكة، وبدأت في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين تعقد حلقات الدبكة، بعد أن إستقطبت بيروت أبناء الريف خاصة من اقليم الخروب.

وشهدت مناطق الضواحي، خارج بيروت العُثمانيّة، الكثير من مناطق التنزه مثل مناطق رأس بيروت، المنارة، الرملة البيضاء، الأوزاعي، الغدير، الصنائع، حرج ساقية الجنزير، كرم الأشرفية، مزرعة العرب، مزرعة الأشرفية، حرج بيروت، قناطر زبيدة، جنينة رستم باشا، نهر الكلب، الدورة، نهر الكلب، الكرنتينا، كرم شاتيلا في منطقة الروشة، فوار أنطلياس، وكرم رحّا ، كان هذا الكرم بين ساعة العبد ومنطقة المتحف وكان يُزرع فيه الخس والحمص وبعض أنواع الفاكهة، وتتلذذ الصبايا بمضغ نبتة (الحميّضة).

عائلة الحاج سعيد الحاسبيني وآل الزعتري في حرج الأوزاعي

وكانت مناطق التنزه تشهد ازدحاماً في أيام الجمعة والأعياد، بالإضافة إلى وجود وسائل التنقل من عربات أو دواب، علماً أن الكثير من البيارتة كانوا يتنقلون مشياً على الأقدام بسبب ندرة العربات أو ارتفاع أجورها، وعندما أنشئت سكة الحديد في أواخر القرن التاسع عشر ، أدركت الشركة صاحبة الامتياز أهمية المنتزهات، فمدت خطاً بين بيروت ونهر الكلب، يقوم برحلة واحدة أسبوعياً من الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة الخامسة مساءً، وألحقت بقاطرات الركاب، قاطرة لأمتعة المتنزهين وأدواتهم.

وكان المتنزهون في الكرنتينا أو مينة الزريقة في شوران، مكان الحمام العسكري حالياً، يركبون الزوارق ويدورون حول البواخر، ثم يعودون أو يتوجهون إلى صخرة الروشة فيمرون من فتحتها المشهورة، وكان البحارة وصيادوا الأسماك في تلك المنطقة ينتظرون هذه النزهات، فيحضّرون مراكبهم، ويعمد بعضهم إلى إقامة خيمة فوق القارب تقي زبائنه حرارة الشمس.

سيران في منطقة مية الدالية قرب الرملة البيضاء (صاحب هذا الموقع إلى الشمال)

وكانت جنينة رستم باشا من المنتزهات، أنشأها المتصرف رستم باشا في الحازمية عند منحنى مجرى نهر بيروت من الشرق إلى الشمال بين بساتين الليمون وأحراج الصنوبر ويُقال، والعهدة على الراوي، أن رستم باشا أنشأ هذه الحديقة إكراماً لخاطر سيدة كان معجباً بها، وكانت الحديقة على سعتها وحسن تنسيقها، تحتوي على كشك كبير في وسطها تعزف فيه أسبوعياً فرقة موسيقية تحضر من بلدة بعبدا، معزوفات شجيّة راقصة وأخرى عسكرية، وما زالت بقايا هذه الجنينة موجودة حتى اليوم.

آل الحاسبيني والزعتري في حرج الأوزاعي

 

أما قاصدو فوار أنطلياس، فكان منهم القبضايات وبعض أهل الوجاهة من رؤساء الميناء وأتباعهم، فيستضيفهم إلى مائدته قبضاي مثلهم عازف على البزق وصاحب ذوق رفيع بالعزف وغناء الموال والأغاني الشعبية هو حنا الرحباني والد عاصي ومنصور، وكان مجلسه يضمّ أحمد البواب ومحيي الدين بعيون وزكور حجال من عازفي الطنبور ورعاة الموال، فيتناشدون المواويل المشحونة بالرجولة والنخوة والشهامة وبعض الغزل الخفيف.

أما منتزه السيوفي، مكان الحديقة العامة المعروفة اليوم، فكان يُقصد لارتفاعه في أعالي الأشرفية ولأنه يطل على الجبل من جهة وعلى منحدر فسّوح ومجرى نهر بيروت من جهة أخرى، واسم المكان مشتق من معمل السيوفي للتجارة والموبيليا الذي كان قائماً هناك واشتهر بصناعة المفروشات والموبيليا كما اشتهر نظيره كرم عون في الجميزة.

مجموعة من البيروتيات في مقهى أبو النور في تلة الخيّاط

وإرتبط بالتنزه (العرزال) الذي يقام عادة في الصيف على شواطئ بيروت لا سيما قرب ضريح ومقام الإمام الأوزاعي، ورأس بيروت، وعين المريس ، وشاطئ جامع الخضر والكرنتينا، كما اعتبر العرزال من ملامح الحياة الاجتماعية في بيروت العُثمانيّة، حيث كان يقام على سطح المنازل القديمة وسط مساكب زهور الفّل والزنبق والرياحين والياسمين، وتطور العرزال ليصبح في بعض الأبنية برجاً مدنياً وهو من سماة العمارة البيروتية العُثمانيّة، وقد بدا الدين الإسلامي والعادات والتقاليد البيروتية عاملاً مؤثراً على أنماط العمارة، بحيث شهدت المحكمة الشرعية في بيروت المحروسة الكثير من الدعاوى لإغلاق النوافذ المُطلّة على الجيران، مما دعا المهندسين في بيروت لتعديل ما يلزم استجابة للدين وللعادات والتقاليد الإسلامية.