{ حارث المياه }

أقرمش الصنوبر ممزوجاً بنثرات الثلج ثم أعود إلى جرعاتي الصغيرة من كأس الجلاّب متسائلاً كيف يستطيع المعلّم العنتبلي أن يمزج الحلاوة بالبخور... ومن أين يأتي بهذا اللون الخمري لجلاّبه الذي يضيء أحمرُهُ بصفاء عجيب لم يتوصّل إليه أحد من معلّمي الجلاّب المشهورين حتى المعلّم الدمشقي الذي فتح زاوية في سوق الفرنج وراح يرسل رسائل التحدّي للمعلّم العنتبلي ويُكثر من كميات الصنوبر والزبيب للزبائن الذين أبدوا استعداداً للإختبار والتجريب.

كلما جرعت جرعة صغيرة رحت أنظر إلى مستوى السائل في كأسي مستمتعاً ومتحسراً في آن... حتى يأخذني حديث والدي تماماً، فكلّما حدّثني أبي عن جدّي الذي لم أعرفه، وغطّى عينيه ذلك الوشاح الرقيق الذي يغطّي أعين الناس حين ينظرون إلى البعيد وينسون من هم بقربهم محاولين التذكّر، نسيت أنا كلّ شيء وحضرني وجه جدّي الذي اخترعته من رأسي وجعلت قسماته تشبه قسمات وجه أبي مضيفاً إليها بعض القسوة والسنوات.

كان جدّي يقول إن مدينة يكون بانيها زُحَلْ كما روى الأقدمون، لا تلبث على ازدهار. وإن رغد العيش فيها لا يطول حتى ينقلب عاليها أسفلها. ولذا كتب اليونانيون على عتبة باب الدركةindex التي كانت عتبةً لباب آخر اختفى واضمحلّ: أيها الداخل في هذا الباب افتكر بالرحمة. نُكبت في أيام الأشوريين والفرس وحلفاء الإسكندر وبقيت خراباً خمسة وسبعين عاماً إلى أن رمّمها بومبيوس وسمّاها السعيدة على اسم ابنته جوليا فيلكس، وفي عهدها بُنيت مدرسة الشريعة العظيمة التي ازدادت عظمة في عهد اسكندر سفيروس اذ عزّزتها مئات المدارس الصغيرة. وحين راح نجمها يشعّ وسُمّيت مُرضعة الفقه ضربها الزلزال وقلب أرضها قلباً ... وإثر حروب المردة ومقاتلي معاوية ثم يزيد بن أبي سفيان استتبّ الأمن فيها حتى أواخر القرن التاسع حيث تولاّها الأمير نعمان بن عامر الأرسلاني الذي حصّن سورها وقلعتها فتوافد إليها القضاة والأئمة والتجّار إلى أن زلزال عظيم آخر... وبقيت الحروب المتعاقبة تهزّها بين فترة وأخرى دون أن تهدّها ولكن دون أن تترك لبنيانها أن يزدهر ولتجارتها أن تنشط. وحاصرها ملك الأفرنج بلدوين في عهد سعد الدولة الطواشي الذي اقتلع بلاطها خوفاً من أن يصدق المنجّمون الذين حذروه من إنزلاق فرسه وموته لذلك. لكن من مات في بيروت كان بلدوين نفسه قبل أن يحاصرها صلاح الدين الأيوبي وينهب فيها ما تركه حصار بلدوين وحصار الأسطول المصري فيقطع كرومها وزيتونها ويهدّ عمرانها.

لا تخف، كان يقول والدي، لا تحملق هكذا، ما حكاه لي جدّك حدث من زمان بعيد.

ويقول جدّي إن الإفرنج متمسكين بحلم السيطرة عليها، يغيرون على أهلها كلّما استطاعوا فلم يهنأ فيها عيش. وفي عهد المقدّم في أمراء الإفرنج، القس الألماني المعروف بالخنصير، قويت شوكة هؤلاء، فعزم الملك العادل على كسر هذه الشوكة وكانت نتيجة المعارك أن هُدم السور وخُرِّبت القلعة وهُدّمت الدور واستتبّ الأمر للإفرنج حتى قدم إليها سنقر الشجاعي قائد جيوش الملك الأشرف خليل بن قلاوون فعاد وخرّبها من جديد، أو قل خرّب ما كان بقي قائماً فيها ورمى عليها الكلس الحارق.

لماذا يا أبي، كنت أسأل. تلك هي بحسب جدّك، حياة مدينة خُلقت تحت تأثير زحل، الكوكب القاسي.

ويقول جدّي إن العمران عاد إلى المدينة خلال أقلّ من عشرين سنة قبل أن يضربها الطاعون ويزهق أرواح أهلها ممّن لم يعمدوا إلى الهرب. وحين تطهّرت الأرض عاد إليها من غادرها ثم عمرت ورجعت إلى حال من الازدهار جعل إبن ملك البندقية يقصدها للتنزّه مع جماعة من أتباعه وأصحابه. واستاء أهل المدينة من سلوك الأمير العنجهي فكمنوا له ولمرافقيه وقتله بالحيلة شيخ أعمى ... ولما وصلت الأخبار إلى ملك البندقية جهّز للانتقام مراكب حربية ضخمة عديدة وأرسلها إلى الشاطىء فضربته ودخلت العساكر بيروت فأحرقتها وهدّمتها وقتلت كلّ من لم يهرب من أهلها. وبقيت المدينة خربة لمدة طويلة.

وتلت ذلك حروبُ التنوخيين وأمراء كسروان ثم حروب اليمنية والقيسية، وفي أيام الأمير الشهابي بشير إبن الأمير حسين صارت بيروت كالقرية المهجورة، إلاّ أن إخوته ثم أولاده وأحفاده أعادوا بناءها وحسّنوا فيها كثيراً إلى أن عاد إليها الطاعون فجرفها جرفاً. وبعد أن فرّ إليها الجزّار من والي مصر حاصرتها المراكب المسكوبية بأمر من ظاهر العمر، فأحرقت مبانيها ونهبتها. ولما عصى فيها الجزّار أوامر الأمير يوسف وخدعه في وعد تسليمها إليه، عادت السفن المسكوبية بعساكرها بطلب من ظاهر العمر إلى بيروت وحاصرتها براً وبحراً وأطلقت عليها المدافع ليلاً ونهاراً أربعة أشهر.

وتلا ذلك، يقول جدّي، حروبٌ بين المسلمين والأروام ثم خرّبتها عساكر إبراهيم باشا المصرية ولم تُخرج هذه العساكر سوى مدافع مراكب الدول الأوروبية المتحدة مع عساكر ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان ... وبعد أن نقلت الدولة العثمانية مركز حكومة الإيالة من صيدا إليها، وأقامت عليها سليم باشا والياً ظلّت تتقدّم لأحوالها وتنتعش الحياة فيها فاستقبلت القناصل وتجّار الافرنج وكثر فيها الشارد والوارد. وبقيت فيها العساكر الإنكليزية زماناً بعد إخراج حكومة مصر من سورية، وإذاك اقتضى توسيع مبانيها لغلاء أجورها فامتدّت الأبنية إلى خارج السور بسرعة كبيرة حتى أن كثيرين من عارفي ذلك الزمان قالوا إن سرعة تقدّمها في تلك المدة ربما كان لا يضاهيها فيها مكان في أوروبا نفسها. وكثر أيضاً عدد ساكنيها إذ هرب إليها أهل القرى التي اشتعلت فيه الحرب الأهلية ... واستمرّت ازدهاراً على ازدهار لا توثّر فيها إلا حَسناً حروب الدروز والنصارى حتى سنة 1860 حيث راحت التعدّيات في دمشق ووادي التيم وجوار بيروت تُتلف المال وتشلّ التجارة فيما أعداد القادمين إليها والمستجيرين بها تزادر إلى أن وصلها العسكر الفرنسي وحلً فيها معتمدو الدول الذين جعلوا لبنان متصرفية مستقلة متعلّقة رأساً بالباب العالي، وإذاك شهدت بيروت ازدهاراً قلّ نظيره ترافق مع شقّ طريق آمنة بينها وبين دمشق كفلتها شركة فرنسية، وجعلت المدينة مركز إتصال أوروبا بسورية تشجّع على ذلك تسهيلات البنك العثماني. ثم ازدادت ازدهاراً على ازدهار حين جُعلت متصرفية فنبتت فيها المدارس كما ينبت الفطر. مدرسة الروم الأرثوذكس فالروم الكاثوليك فالمدرسة الكلية السورية، فالنجيلية الأميركية، فاليسوعية ثم الحكمة للموارنة، ثم راهبات اللعازارية فراهبات البروسيانيه فمدرسة مسز طومسون الإنكليزية ثم راهبات الناصرة فالمكتب السلطاني العسكري ... وترافق كلّ هذا مع نمّو وانتشار كبيرين للمطابع والجرائد والمجلات...

وإذاك، يقول جدّي عن أبيه، قرّرت العائلة الرحيل إلى مصر حاملة معها كمية كبيرة من أهمّ صادرات هذه البلاد: الحرير وخبرة ميزانه وصناعته التي اكتسبها أهل بيروت من أيام الأمير منصور الشهابي.

ويقول جدّي إن أباه لم يرحل إلى مصر في سبيل التجارة فقط بل لأنه كان يحتسب عمر ازدهار بيروت ويقول إن خرابها المقبل بات قريباً وإن دورة العيش الرغيد ستكتمل وتنقفل، لا بدّ.

وجدّي يعتقد بذلك أيضاً مثل أبيه ...

لماذا، سألت أبي، وبيروت هانئة راغدة العيش.

لأنّ جدك يؤمن بأن لدورة الحياة إيقاعها الواضح في هذه المدينة، وأن حياتها لا تتجدّد إلاّ بعد خراب وموت عظيمين. فأرضها طبقات متعاقبة من الحيوات التي عبرت، وهي ليست كأرض المدن التي تعيش أزمنتها في حركة الهواء على السطح فيسري التحوّل في أبنيتها ولا ينفذ إلى باطنها.

لكنّ اعتقاد جدّك يتأتّى أيضاً من غيرة داخلية ممّن مكثوا يعيشون في بيروت... إنها حرقتُهُ من عناد أبيه في منعه من العودة إليها.

إنه شوق جدك وحبّه لهذه المدينة الممنوعة عليه والبعيدة. وأنا فهمت كلّ هذا ... وها نحن نعيش فيها آمنين راغدين، فلا تخشَ شيئاً.

الكاتبة اللبنانية هدى بركات