في حياتي المديدة، أنا الذي تجاوزت الستين، والممتدة إلى أن يأتي اليقين، مارست وتعاطيت مهناً وأشغالاً كثيرة ومتنوعة. منها ما هو عالي الجبين، شريف ومحل تقدير، ومنها ما هو دون ذلك. بعضها، كنت فيه صاحب المهنة ورأسها، والبعض الآخر لزمت فيه دور معاون أو مساعد أو تابع.

 العلم والعمل

تنوعت المهن فتجاوزت مدة بعضها خمس سنوات متصلة من التفرغ لها وحدها دون سواها. وهناك مهنٌ أخرى متقطعة متزامنة، تخللتها مشاركة في حرف سوداء... ومهنة سائق سيارة أجرة استمرت متقطعة متباعدة منذ أربعين سنة. ومع هذه المهن كلها، لم أكفَّ يوماً عن دوري كناشط سياسي منخرط في الحروب المتلبننة، ليس داخل لبنان فقط، بل وخارجه أيضاً.

 عملت سنوات مديراً لمكتب الملحق الصحافي لدولة ثورية نفطية عربية في بيروت. إنه الدكتور الصحافي سالم عبد النبي قنيبر من بنغازي. وذلك في سنوات عز الصحافة اللبنانية "وعز الدفع" للصحافة والصحافيين (1971 – 1977).

بعدها تعلّمتٌ في بضعة شهور مهنة أخرى، صرت فيها صاحب مؤسسة صناعية عمت شهرتها لبنان. مؤسسة تولت تصنيع المحولات والمنظمات الكهربائية وبيعها. وهي مؤسسة "FTI للكهرباء المغناطيسية"، وكثيرون من الذين عملوا فيها هم اليوم، معروفون في سوق الكهرباء والمنظمات الكهربائية ببيروت. (شامي وشدياق ـ وليد الخطيب ـ محمود المصري وغيرهم).

بعد عشرين سنة على ترك هذه المهنة، ما زلت حتى اليوم أُسْأَل من بعض العاملين بالكهرباء ومتصلاته، عن مشاكل فنية في الكهرباء وطرق حلها. ورغم إدراكي الكامل أن أجيالاً أخرى تخرجت في كليات الهندسة، وتعرف أكثر مني بكثير وتمارس المهنة بشكل أنجح. لن أنسى يوماً أن الفضل في دخولي المهنة يعود الى الحاج علي المعاز، صاحب شركة مصاعد "شلندر"، أطال الله عمره. فهو الذي دلني على بعض بدايات المهنة. أمّا الفضل الأساسي فكان للقراءة. نعم قراءة مقررات كتب الهندسة الكهربائية لطلبة كليات الهندسة في الجامعة، وقراءة عشرات الكتب المهنية التي كانت تنشرها "دار الفارابي" في بيروت مترجمة عن دار "مير السوفياتية" حينها. كنت أجمع الممارسة مع القراءة المتواصلة. وهذا هو سر النجاح، التعلم المستمر مقروناً بالممارسة المستمرة. أي استدامة التعلم والعمل.

مسلسل بيوتي طويل

بيروت ناسها ونساؤها، أهلها وغزاتها، زائروها وسياحها. كيف بدت بعيون مفتوحة لسائق واع يختزن حراكا مستداماً ويمتلئ مزاجاً متقلباً بين لزوجة مقرفة وانسيابية سلسلة. بين تراخ وانفلات وفجأة ينقلب إلى تشدد في النقطة والفاصلة والحرف واللفظة والعبارة. سائق يسوق الركاب. وأحياناً يسوق به راكب أو راكبة. مهنة سأروي بعض ذكرياتها في حلقات من مسلسل بيروتي طويل، مكثف في الخبرات ومثير في الروايات والحوارات. مسلسل يكشف عن جنايا وزوايا. فباب السيارة العمومية، يدخل منه وتخرج يومياً ناس وبشر كثيرون. ناس تأنس بهم، فكلمة ناس مشتقة من الفعل أنس أي اطمأن وشعر بالراحة، وقوام ذلك التمتع بالقدرة على التناسي. أما لفظة بشر فربما رُكبتْ من حرف الجر "الباء"، ولفظة شر. وحين تضاف الباء المكسورة إلى كلمة شارة، اي علامة، فيقال بِشارة، بكسر الباء، دلالة على الفرحة "من غير شر".

بين ناس وبشر ومع الناس والبشر ذكريات طويلة. وقبل المباشرة باستدعاء حكاياتها وسرد رواياتها، سأتحدث في الحلقة المقبلة عن الركاب في أنواعهم: ركاب النهار وركاب الليل. عن السائقين وبعض ثوابتهم. عن أصول مهنة "الشوفرة" وشروطها، حدودها وضوابطها.

كان ذلك شتاء 1970، أي ثلاث سنوات بعد وضوح هزيمة 1967. كنت، أنا المولود عام نكبة فلسطين، في السنة الرابعة والأخيرة من كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية بجامعة بيروت العربية. فجأة، وبلا سابق إنذار، ولأسباب فجائية متلاحقة، انقلبت معيشتنا وحياتنا العائلية، من "معقولة ومقبولة" إلى "منقطعة ومقطوعة". وصرت بين يوم وليلة، مسؤولاً عن أخوتي الستة وسند أمي بغيبة أبي. لم أكن أجيد إلا قيادة السيارات، هكذا إرتأيت أن أعمل سائق سيارة عمومية ليلاً، مع متابعة السنة الرابعة والأخيرة في الجامعة نهاراً.

MERSEDIS180 

المرسيدس 180

دبرت أمي مبلغ ماية ليرة، وهو الرسم المحدد حينها للحصول على إجازة سوق عمومية. وخلال عشرة أيام أجريت امتحان السواقة العمومية. كان يُجرى في منطقة المكلس، تحت إشراف هيئة ضبط وربط وتشديد، وعيون أمنية متابعة. واستبدلت إجازتي السياحية الخصوصية بإجازة سياحية عمومية. لم تكن حينها تسمى رخصة قيادة، بل إجازة قيادة. والفرق بين اللفظين يكشف عن الصعوبة في العملية. ولفظ إجازة كان ولا يزال يطلق على الشهادة الجامعية، فيقال: "يحمل إجازة جامعية في كذا".

من محطة "جانا" في البسطة الفوقا تسلمت فوراً سيارة مرسيدس 180 عمومية، موديل 1959 وباشرت العمل عليها في وردية الليل، من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً ببدل 12 ليرة في وردية الليلة الواحدة، مقابل 18 ليرة في وردية النهار، أجرة للسيارة. ومبلغ 12 ليرة حينها يساوي اليوم خمسين ألف ليرة. على أساس احتساب سعر صفيحة البنزين في تلك الأيام سبع ليرات ونصف الليرة، مقابل 30 ألف ليرة اليوم.

كانت حركة الركاب في ذلك الزمن، باتجاهين اثنين فقط، وليس فوضى في الاتجاهات كلها وكيفما اتفق، كما اليوم. فمن الأطراف إلى المركز وبالعكس، كانت حركة السيارات العمومية في تلك الأيام. باشرت عملي على المرسيدس 180 ـ سيدة سيارات السرفيس في الستينات والسبعينات من القرن الماضي ـ نزولاً من صبرا فالطريق الجديدة فالنويري والبسطة والباشورة وصولاً إلى ساحة رياض الصلح والمعرض، ثم العودة في الاتجاه المعاكس. وكان الخيار أمام الراكب الراغب في التوجه من الطريق الجديدة إلى عائشة بكار، مثلاً، أن يتوجه إلى المعرض أولاً، كي ينتقل من هنالك بسيارة ثانية إلى عائشة بكار. وأجرة الراكب كانت ربع ليرة لبنانية، على خط طريق الجديدة ـ المعرض، وعشرة قروش من المصيطبة ـ عائشة بكار نزولاً وإلى البلدة 15 قرشاً صعوداً إلى كلا المنطقتين.

كان على السائق العمومي على خط الطريق الجديدة ـ المعرض، أن ينقل 48 راكباً، ليجمع بدل إيجار السيارة، يضاف إليهم 38 راكباً مقابل ثمن تنكة البنزين الواحدة، ويزيد عليهم بين 70 و80 راكباً لتحصيل معاشه. أي كان عليه أن ينقل ما مجموعه 150 راكباً ليحصّل 15 ليرة ربحاً يومياً. كان ذلك ممكناً في تلك الأيام، رغم أنَّ التعداد البشري في لبنان كان نصف ما هو عليه اليوم، فهوس الناس باقتناء السيارات الخصوصية، وقدرتهم على اقتنائها، كانا في بداياتهما تلك الأيام، حينما كانت زحمة السير "مزحة" مقارنة بأيامنا هذه. والسيارات العمومية كانت تنقل عادة راكبين إلى جانب السائق، لا راكباً واحداً، وكان ناقل الحركة "الفيتاس" مقروناً مع عمود المقود لا في الوسط بين المقعدين الأمامين حال هذه الأيام. والأهم أن عدد اللوحات العمومية كان محدوداً بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف لوحة من دون زيادة.

ذكرى الترامواي

كان الترامواي يعمل على خط الحرش رياض الصلح فالدورة، وعلى خط ثان من فرن الشباك إلى ساحة الشهداء أو "البرج" كما كان غالباً على تسمية الساحة التي أضاف إليها اغتيال الرئيس رفيق الحريري تسمية "الحرية". وكان خط الترامواي الثاني يصل إلى الجامعة الأميركية فالمنارة القديمة في آخر شارع بلس. وكان بدل "الناولون" (التذكرة) خمسة قروش في الدرجة الثانية، وعشرة قروش في الدرجة الأولى. مقاعد الدرجة الأولى كانت من الجلد الحقيقي، مقابل الخشب "أبو المسامير" في الثانية. ركاب الأولى كانوا من الموظفين، والأفندية والخواجات والستات العصريات. و"البستكتار" (قاطع التذاكر) في الأولى "شي مرتب" شكلاً ولباساً ونبرة صوت، مع ابتسامة مستدامة. أمّا في الدرجة الثانية فغالباً ما تكون "الفركونة" (الحافلة) أو المقطورة تعج بأشكال وألوان من البشر، على نقيض الأولى، وهم جميعاً من سلالة "عبسكو"، الكلمة المشتقة من "عبس"، أعزكم الله ورفع غضبه عنكم. وهؤلاء أصحاب مهن "حرة" و"مستقلة": عتالة، بويجية، بياعو كعك، مورّقون، طرّاشون، بلاطون، مزفتون... إلخ. وكلهم يركبون مع عدتهم وبضاعتهم.

وكان يتعلق بالحافلة ـ على عادة تعليق الكهرباء اليوم ـ كل من تعلم في صغره القفز من وإلى الحافلة أثناء سيرها. وكاتب هذه السطور تعلمها عن "شطارة" سنة 1959، كما تعلم في التظاهرات، كيف تقلب الحافلة ويؤخذ حديدها ومقاعدها "غنيمة" بتعبير اليوم، أو "حق توزيع" الثروة بتعبير الستينات. فالترامواي شركة "احتكارية، استعمارية"، حسب التعبير الثوري الستيني والسبعيني. اختلفت العناوين وتبدلت المبررات، ولكن المضمون بقي على حاله: استباحة ملكية الغير والأملاك العامة والحكومية.

ركاب الليل

مع السّحَر (دخول الربع الأخير من الليل)، كانت تدب حركة فئتين من الركاب: فئة تؤوب من السهر للنوم بمنازلها، وفئة تنهض لتباشر عملها في توزيع الصحف، أو بالمسلخ وسوق السمك و"الحسبة". وهذه كانت سوق الخضر بالجملة، ومحلها خلف سينما ريفولي في أسفل ساحة البرج. وهي المساحة المشتركة بين جميع المناطق ولجميع الطوائف، ببورة الأرض المقابلة اليوم لمدخل صحيفة "النهار". ولفظة الحسبة تعني في الأصل السوق المعتمدة التي يشرف عليها "المحتسب"، وهو شخص أو هيئة وظيفتها نظير وظيفة دائرة حماية المستهلك التي ليست أكثر من اسم محدث لشيء لا وجود له.

من ساحة صبرا، أمام مركز الكفاح المسلح الفلسطيني الذي حلَّ محل مركز الدرك اللبناني فوق محلات اللحامين حالياً، كنت أبدأ نقلتي الليلية على سيارتي العمومية إلى سوق الخضر بساحة البرج. الراكب الليلي الأول يصعد من دون كلام أو سلام. أتلفت يميناً ويساراً مفتشاً عن راكب ثانِ. أدير محرك السيارة. أتقدم بضعة أمتار إلى الأمام، وعيني على المرآة إلى الخلف علني ألمح شبح راكب لأعود فوراً إليه. أحياناً أعود فلا أجد أحداً، وأدرك أن الراكب لم يكن سوى شبح توهمته، فأعاود التقدم متمهلاً حتى زاروب الجزّار (مفرق يربط آخر شارع أبو سهل نزولاً بشارع صبرا، بطول 500 متر). عيناي لا تزالان تنظران إلى الخلف، إلى ساحة صبرا وإلى الأمام بعيداً إلى حدود محطة الدنا. فأي ملمح لراكب هبط من احد الزواريب أطير طيراناً إليه.

خمس دقائق تمضي بيني وبين السيارة التي سارت أمامي. آه لو تصير عشراً، إذاً لضمنت نقلة كاملة، بخمسة ركاب وربما سادس "زرك". ولكن هنالك سيارة عمومية وقفت في ساحة صبرا، يومض سائقها بمصباحها العالي تهديداً: أي أسرع وإلا سأنطلق وأتجاوزك. أرمق زاروب الجزار بنظرة. إضاءته معدومة، ولكن الراكب يظهر واضحاً لتعمّده السير وسط الزاروب.

ها هو السيد جميل تميم (أبو محمد) المحاسب في الحسبة، قد خرج للتو من بيته، طويل القامة، ممشوق القوام، مبتسم الوجه دوماً. الليلة باردة وألبسته "البردوسية" (كبوت شتوي يصل طوله للساق، "يقتل البرد"). من منتصف زاروب المسالخي يهرول "السعدان" نزولاً. أسميه السعدان لهرولته، ولأنني أجهل اسمه الذي لم أسأله عنه، رغم علمي أنه محاسب جديد في السوق. ولم أسأل عنه السيد جميل تميم المحاسب في السوق منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. والمحاسب القديم عاشق لمحمد عبد الوهاب، وقد وهبه الله أذناً مرهفة وصوتاً جميلاً. لا يزال إلى اليوم ـ أطال الله عمره ـ يمسك العود و"ينقر" عليه، رغم ذهاب سمعه. هو من ضربة الوتر يعرف في ذاكرته شكل ذاك الصوت الخارج من العود، فيغمض عينيه الزرقاوين ويتمايل برأسه مع ترنيمة هامسة تنساب من شفتيه: "جفنه علَّم الغزل". الله ...

يسبق "السعدان" السيد جميل، ويقفز ضاحكاً، من دون سبب، إلى مقعد السيارة الخلفي. السيد جميل المتزن في مشيته يصبّح بصوت عال مع ابتسامة ورفع اليد اليمنى، قبل أن يجلس على المقعد الأمامي إلى جانب الراكب الأول. ركاب سوق الخضر يعرفون بعضهم. ثلاثة ركّاب.. "ضمناً" النقلة. فبقفزة سريعة إلى النويري، ومنها إلى مفرق "حزب النجادة المنقرض اليوم، "نضمن" ضمناً" راكبين.

توصيلة الزيتونة

ثوان وأصل إلى أمام سينما الريفولي. أصلها مع من تحرك قبلي في سياراته وربما تجاوزته في ساحة الشهداء. بسبب برد الليل حركة الركاب لا زالت خفيفة. "نطة" على "الزيتونة"، مركز الملاهي الليلية التي طارت شهرتها منذ أربعينيات القرن الماضي، وكانت تقع على شاطئ البحر أسفل بناية ستاركو، على امتداد صخري يعلو سطح البحر بثلاثة أمتار ويتخذ شكل خليج صغير. يبدأ الخليج من مقهى ومطعم الحاج داود ليصل إلى مقبرة السمطية بطول 500 متر. من أشهر معالم "الزيتونة" حينها، فندق نورماندي الذي أخذ اسمه من معركة النورماندي الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، ثمَّ سلّمه فيما بعد لمكب النورماندي، من أشهر معالم "الزيتونة" أيضا كباريه وملهى "الكيت كات"، مع العشرات من علب الليل الشرقية. اليوم لم يبق من معالم "الزيتونة" سوى تلك الكنيسة الصغيرة بدرجاتها القليلة التي تنتهي بمصطبة، وكانت أمواج البحر تغسلها شتاء قبل ردم البحر، بمخلفات حروبنا الضروس.

من الزيتونة، "أتوفق بتوصيلة". "التوصيلة"، لفظة تدل على نقلة مخصوصة، دون التاكسي وفوق السرفيس. رجل خمسيني عريض الكتفين، صاحب كرش، خفيف الشعر، لم تسكره استدامة السكر، كما لم يكبكبه كرع العرق. إنه "ماكن" وواع. قبل الصعود يشترط بلفظ مسموع واضح تصحبه اشارة من شاهد قبضته اليسرى، القابضة على ليرة واحدة، لتوصيله إلى رأس النبع، قرب مدرسة عزيزة طيارة.

طيران إلى مدرسة عزيزة طيارة. يشير لي بالتوقف قربها. يفتح الباب. يفك قبضته القابضة على الليرة. يترجل من السيارة مع عبارة "الله معك"، مختصرة. أعود إلى ساحة صبرا لنقلة أخرى. أثناء التوقف خلف سيارة عمومية، أعيد عدَّ غلّة الليلة... الغلّة ممتازة، "صار بيطلعلي 17 ليرة من هلّق حتى الساعة 6 "بضب" 25 ليرة".