مقدّمة

موقع مدينة بيروت المحروسة وضواحيها البعيدة:

تقع مدينة بيروت المحروسة على الشاطئ الشرقي من البحر المتوسط، يحدّها غربًا البحر، وجنوبًا ضواحيها لا سيّما الضاحية الجنوبية ومنطقة خلدة امتدادًا إلى صيدا وجوارها، وشرقًا جبل لبنان والمناطق الشرقية، وشمالًا جونية وطرابلس والبحر، وبعض المناطق – الضواحي الشمالية. وتقع بيروت في إقليم معتدل يتميز بجودة الطقس واعتدال في المناخ وجمال في المنظر. وتذكر بعض المصادر بأن اسم بيروت مشتّق من "بيريت" أي الآبار، وذلك لكثرة وجود الآبار والينابيع فيها. وكانت بيوت بيروت العثمانية تذخر بالآبار أو بآبار الجمع ومنهم من رأى أنّ "بروتا" تعني السرو أو الصنوبر، كما تميّزت غالبية بيوت بيروت بالقرميد الأحمر الذي ظلّلها وأعطاها خصائص وسمات جمالية. وأكثر ما ميّز المدينة منذ آلاف السنين حرج بيروت المحروسة الذي كان مقصدًا للبيارتة لا سيّما في عيد الفطر السعيد وعيد الأضحى وفي مختلف المناسبات.

سور بيروت المحروسة وضواحيها الملاصقة بها:

عندما يقال بيروت في العهد العثماني، إنّما كان يقصد بها بيروت الوادعة داخل سورها، وفيما عدا ذلك من مناطق تدخل اليوم في نطاق بيروت، فإنّما كان تعتبر ضواحي بيروت، فقد كانت البسطة والمصيطبة وبرج أبي حيدر وزقاق البلاط والقنطاري والباشوراء، والنويري، والأشرفية ورأس بيروت وسواها من ضواحي بيروت، وكانت تتميّز بكثرة مزارعها وأشجارها لا سيّما التوت المرتبط زراعته بإنتاج الحرير، لذا كانت تسمّى المناطق على النحو التالي: مزرعة الأشرفية، مزرعة الحمراء، مزرعة القنطاري، مزرعة العرب، وهكذا... كما أنّ ساحة البرج ذاتها كانت خارج السور، وهكذا أيضًا بالنسبة للبنك العثماني (دائرة الشرطة اللبنانية فيما بعد).

والحقيقة فإنّ تطوّر مدينة بيروت خارج السور، إنّما جاء نتيجة متطلبّات عمرانية واجتماعية واقتصادية وسكّانية، حيث بدأت أعداد المدينة تزداد تباعًا. وكانت حتى عام 1746 مجرّد مدينة متواضعة تخضع لأحد الضباط الأتراك. ثمَّ سرعان ما بدأت بالتطور الاقتصادي نتيجة للأمن الذي تميّزت به، ونتيجة جهود تجّارها، مع ما يتميّز به ميناؤها من مميزات تؤمّن الأمان للسفن، علمًا أنّ المناطق اللبنانية والشامية لا سيّما دمشق. وشهدت بيروت بعض الجمود في عهد الوالي أحمد باشا الجزار (1776-1804)، ولكنّ سرعان ما استعادت نشاطها في عهد واليها سليمان باشا (1804-1819). ونتيجة التطوّر الاقتصادي الذي أصابها، فقد بدأت الدول الأوروبية تنتبه إلى أهميتها، فافتتحت الدول الأجنبية ومن بينها فرنسا قنصليات لها في بيروت لا سيّما في القرن السابع عشر، لمتابعة نشاط تجّارها ورعاياها، وعلاقتهم بهذه المدينة وبمنتجاتها وببضائعها. كما شهدت بيروت في القرن العشرين افتتاح جميع السفارات الأجنبية.

أبواب بيروت المحروسة:

كانت بيروت العثمانية يسيّجها سور على غرار أسوار المدن العربية والإسلامية، وقد قام الأمير نائب الشام بتجديد سور بيروت في العصور الوسطى، ثمَّ قام بتنظيمه وتحسينه الوالي أحمد باشا الجزار في أواخر القرن الثامن عشر يوم طمح إلى الاستقلال والخروج على مولاه الأمير يوسف الشهابي. وكان يتخلّل سور بيروت أو كما يلفظه البيارتة "صور" بالصاد، سبعة أبواب وبعض الأبراج. وكان يمتدّ هذا السور من شمال الساحة، أي شمال (الهال) الهول وشمال موقع السبيل الحميدي، وما عرف اليوم باسم ساحة رياض الصلح، وبمحاذاة حائط سينما كابيتول، ويمتدّ باتّجاه الشرق حتى جامع محمد الأمين اليوم (زاوية أبو النصر سابقًا) وكنيسة مار جرجس المارونية التي تقع داخل السور. ثمّ يمتدّ شمالًا نزولًا إلى سوق أبي النصر، إلى أن يصل حائط السور إلى بناية دعبول تجاه جامع السراي (جامع الأمير عساف). ثمّ يمتدّ شمالًا أيضًا إلى غربي مرفأ بيروت حيث ميناء القمح (قرب خان أنطون بك). بعد ذلك يمتدّ السور غربًا حتى مقبرة السمطية التي كانت خارج السور على غرار بقيّة المقابر. ثمّ يمتدّ صعودًا قبلة أي جنوبًا باّتجاه باب إدريس وكنيسة الكبوشية التي كانت خارج السور، فمدرسة الشيخ عبد الباسط الأنسي فسوق المنجدين، ويستمر السور صعودًا إلى أن يلتقي مع بدايته في الساحة. وعن مساحة بيروت، يرى الكونت دومنيل دوبويسون في مقاله: استحكامات بيروت وتحصيناتها القديمة: "كان قياس تلك المدينة من أرصفة مرفئها القديم إلى باب الدركه الجنوبي يبلغ (570) مترًا فقط، أمّا قياس امتدادها من بابها الشرقي أي باب السراي إلى بابها الغربي باب إدريس فما كان يزيد عن (370) مترًا. وكان الغالب عليها أسواقها التي في النهار كانت تموج في وسطها وعند أبوابها بحركة البائعين والتجّار، ثمّ تعود إلى هدوئها ليلًا بعد أن تقفل أبوابها وتودع مفاتيحها عند واليها". وفيما يختصّ بارتفاع جدران السور فتقارب خمسة أمتار، بينما سماكتها حوالي أربعة أمتار.

أمّا أبواب بيروت فقد كانت مصفّحة بالحديد تقفل عند المغرب باستثناء باب السراي الذي كان يقفل عند العشاء. وبذلك تكون هذه الأبواب هي: بوابة يعقوب، باب الدركاه (الدركه)، باب أبو النصر (باب مستحدث في القرن التاسع عشر)، باب الدباغة، باب السلسلة، باب السمطية، باب إدريس. وما تزال أسماء بعض هذه الأبواب معروفة إلى اليوم مثل منطقة باب إدريس.

وفي هذا الإطار فإنّنا سنبدأ بدراسة الأماكن والملامح العامة ومعالم مدينة بيروت.

الأبراج:

كان يتخلّل جدران سور بيروت القديمة بعض الأبراج التي بنيت بهدف الاستطلاع والحماية، أهمّها برج الأمير جمال الذي بني عام 1617م وبرج الفنار وبرج السلسلة وبرج البعلبكية وبرج الكشّاف. بالإضافة إلى برج الغلغول الذي وقعت عنده معركة بين القيسية واليمنية في عام 1077ه – 1666م، وقد دعي هذا البرج فيما بعد باسم برج الشلفون باسم الأسرة التي تملّكته في أوائل القرن الثامن عشر مع كافة الأرض المقامة عليها بنايات العازارية في بيروت التي ما تزال قائمة حتى الآن. ومن الأبراج الواقعة خارج بيروت القديمة برج الحمراء في منطقة رأس بيروت، وكانت النار تشعل في قمّته لأعلام دمشق بالتتابع بأنّ خطرًا قادمًا على ثغرها. ويرجّح أنّ هذا البرج يعود إلى عهد الصليبيين. ومن الأبراج العاملة في حماية بيروت برج الباشوراء وهو المعروف أيضًا باسم برج العريس، ويذكر بأنّ هذا البرج كان يتّصل بمغارة تنفذ إلى محلّة المزرعة (مزرعة العرب) جنوبًا. وفي عام 1259ه- 1842م كان يوجد البرج الجديد في زقاق البلاط بالقرب من الخستة خانة الجديدة (مجلس الإنماء والإعمار حاليًا). ومن الأبراج في بيروت برج دندن الذي كان يقع غربي كركول العبد في طريق الشام. وهناك برج المصيطبة وبرج أبي حيدر، بالإضافة إلى بعض الأبراج خارج بيروت منها برج البراجنة في جنوبي بيروت وكان برجًا عاملًا ومساعدًا للثغور من هجمات الأعداء، وبرج حمود شرقي بيروت وهو الذي أقامه أمراء بني حمود المغاربة الذين رابطوا للدفاع عن الثغور الشامية.

الأسواق:

نشأ في بيروت القديمة العثمانية العديد من الأسواق التجارية والحرفية والصناعية نتيجة تطوّر المدينة وزيادة عدد سكّانها ومن بين هذه الأسواق: سوق أبو النصر (اليافي)، سوق الأساكفة، سوق الأمير يونس، سوق البازركان، سوق البلد، سوق البوابجية، سوق بوابة يعقوب، سوق البياطرة، سوق الحدادين، سوق الخضرية (الخضار)، سوق الخمامير، سوق زاوية ومسجد التوبة، سوق الزبيبة، سوق الساحة، سوق ساحة الخبز، سوق سرسق، سوق الشبقجية، السوق الشرعي، سوق الشعارين، سوق الصاغة، السوق الصغير، سوق الطويلة (ما يزال قائمًا)، سوق العطارين، سوق العقادين، سوق الفشخة، السوق الفوقاني، سوق القزاز، سوق القطن، سوق القهوة، سوق الكنيسة، سوق اللحامين، سوق المنجدين، سوق المغربلين، سوق النجارين، سوق النجارين التحتاني، سوق النجارين الفوقاني، سوق النورية. بالإضافة إلى هذه الأسواق فقد وجدت في باطن بيروت أسواق أخرى منها: سوق الأرمن، سوق الإفرنج، سوق أياس (ما يزال قائمًا)، سوق التجّار، سوق الجميل، سوق الخرّاطين، سوق الخياطين، سوق الدلالين، سوق الرصيف، سوق سيور (قرب سوق الإفرنج) سوق الصرامي، وسوق القطايف.

وسنعمل في هذه الدراسة على تحديد المواقع القديمة لبعض هذه الأسواق العاملة في العهد العثماني، منها على سبيل المثال:

أ‌-                سوق الأساكفة: وكان يقع في باطن بيروت قرب الجامع العمري الكبير، بالقرب من دكان وقف "قفة الخبز" وكان يوجد في هذا السوق القهوة المعروفة باسم قهوة سوق الأساكفة. وكان هذا السوق قريبًا من سوق النجارين. وكان يتجمّع فيه عمّال وصنَّاع الأحذية.

ب‌-            سوق الحدّادين: كان يقع في باطن بيروت في الطريق إلى أسلكة (ميناء) بيروت، وكان مركزًا لعمل الحدّادين ولوازم الحدادة، ومن ملامحه أيضًا أنّه كان يوجد في آخره جرينة الحنطة لطحن الحبوب. وكان أوّل سوق الحدّادين من مدخل سوق البياطرة، ويلتقي سوق الحدادين بالباب الشرقي للجامع العمري الكبير حتى أوّل سوق اللحامين عند مدخل كاتدرائية مار جرجس للروم الأرثوذوكس. كما كان يتّصل بزاروب ضيّق يدعى زاروب سوق النجارين الواقع بينه وبين سوق سرسق شمالًا بشرق. وكان يوجد في سوق الحدادين دور سكنية عديدة منها دار الشيخ فرح، ودور آل قباني، آل محفوظ، وآل ياسين، كما كانت توجد بالقرب منه حديقة حسين باشا.

ت‌-            سوق العطارين: يقع سوق العطارين غربي الجامع العمري الكبير، وكان له قيسارية خاصة تعرف باسم قيسارية العطارين التي بناها الأمير عبد السلام العماد. كما يوجد بالقرب من السوق قيسارية الشيخ شاهين تلحوق الموجودة قرب الجامع العمري الكبير. وكان يقع بالقرب من سوق العطارين سوق البوابجية. وكان في سوق العطارين بركة شهيرة تعرف باسم بركة ونوفرة سوق العطارين. أمّا رأس سوق العطارين الجنوبي، فكان يقع تحديدًا بالقرب من أرض بناية الوقف الماروني جنوبي شرقي مجلس النواب في باطن بيروت.

ث‌-            سوق القطن: كان يقع سوق القطن ابتداءً من مخفر ميناء بيروت (الحالي) صعودًا على خط مستقيم بشارع فوش حتى بناية البلدية الثانية. وكان يتفرّع من السوق ثلاثة ممرّات: الأول عند مدخل جامع باب الدباغة، والممرّان الآخرات يبتدئان من بناية البلدية الثانية واحد للشرق ويدعى سوق الخمامير وزاروب سابا، وواحد للغرب يصل سوق القطن بسوق البياطرة. وكان لسوق القطن زاوية تعرف بزاوية القطن وقفها رجل من آل العريس لتكون مسجدًا يؤدّي فيها تجّار سوق القطن صلواتهم. وكان يوجد في السوق فرن سوق القطن ومعصرة سيف الدهان ومحلّة تعرف باسم محلّة النصارى في آخر سوق القطن. وكان أكثر مبيع القطن فيه بالجملة، وهو يعتبر أهم أسواق بيروت القديمة.

ج‌-             سوق النجارين: كان موقع هذا السوق تجاه جامع السرايا (قرب سوق سرسق) وكان السوق المركزي للنجارين والأعمال المرتبطة بمهنتهم. وكان لهذا السوق بعض الفروع منها سوق النجارين التحتاني وسوق النجارين الفوقاني. ومن ملامحه وجود معصرة بني السبليني في داخله وبركة سوق النجارين، وكان يقع بالقرب من هذا السوق سوق الأساكفة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه كان لكلّ سوق سيّده أو شيخه وهو بمثابة نقيب لأصحاب المهنة. ومن خلال بعض وثائق سجلات المحكمة الشرعية (السجل 1282-1284ه) تبيّن لي بأنّ الحاج أحمد بن محمد الحوري كان شيخ العقادين، بينما كان السيّد عبد اللطيف بن عباس السبليني شيخ النجارين وهكذا... في حين أشار السجل (1259ه-1842م) إلى أنّه كان لبيروت وأسواقها عمدة للتجار تولاها أشخاص من آل البربير وبيهم العيتاني والعريس. فقد كان الحاج أحمد بكري العريس عمدة للتجار، كما كان عمر والحاج عبد الله بيهم العيتاني عمدة للتجار في حين كان خليل وحسين جلبي البربير من افتخار التجّار.

البحيرات والبرك والأسبلة:

لم توجد في باطن بيروت بحيرات بالمعنى الصحيح للكلمة إنّما هي عبارة عن تجمعات مائية مع وجود بعض البرك ومن بينها: بحيرة الكاويك، بركة الزينية (قرب الحمام الفوقاني) بركة السوق (قرب سوق النجارين) بركة نوفرة (سوق العطارين)، بركة سوق النجارين، بركة المطران (قرب سوق البلد)، بركة سوق أياس (العنتبلي) وقد أعيدت زجاجية الشكل عام 2010 بعد أن دمّرت البركة القديمة، نوفرة جامع النوفرة (الأمير منذر التنوخي). كما شهدت بيروت المحروسة أسبلة عديدة على غرار المدن الإسلامية الأخرى، أهمّها السبيل الحميدي الذي أقامته بلدية بيروت عام 1900 في منطقة السور (ساحة رياض الصلح حاليًا) وقد نقل عام 1956 إلى حديقة الصنائع ليحلّ محلّه تمثال الرئيس رياض الصلح.

دور ميناء بيروت المحروسة في تطوّر التجارة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بيروت:

تقع بيروت على ساحل مميّز، يتضمّن بعض الخلجان والأجوان، وقد سهّل هذا الموقع إنشاء مرافئ في بيروت وفي بقيّة المدن الساحلية الشامية. وبيروت من المدن القديمة، ويعود نشاطها إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين ويستدلّ على ذلك من سورها العتيق الذي كان يوازي في القديم شاطئ البحر، فكان يمنع تدفق المياه إلى داخل البلدة. وقد أشار صالح بن يحيى بأنّ «بيروت مدينة قديمة جدًا يستدلّ على قدمها بعتق سورها... وممّا يستدلّ على كبر بيروت وسعتها ما يجدوه الناس في الحدائق بظاهرها من الرخام وآثار العماير القديمة...».

ولقد نشأ في بيروت مرفأ مهمّ منذ العهد الفينيقي، على غرار مرافئ صيدا وصور وطرابلس وسواها. كما اتّخذها الإفرنج مقرًا لسفنهم وعساكرهم. ولمّا خضعت بيروت للحكم الإسلامي، كان ميناؤها مركزًا لصناعة السفن الإسلامية لا سيّما في عهد معاوية بن أبي سفيان. ويذكر صالح بن يحيى في كتابه «تاريخ بيروت» «بأنّ بيروت دار صناعة دمشق وبها عمّر معاوية المراكب وجهّز فيهم الجيش إلى قبرس ومعهم أم حرام واسمها العميصا بنت ملجان زوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنهما...».

كان مرفأ بيروت من المراكز الإستراتيجية المهمّة في المنطقة، ذلك أنّ من يستولي عليه يستطيع التقدّم نحو المدينة وبقيّة المناطق، لأنّ أكثر العمليات العسكرية كانت تتمّ بواسطة البحر، وبعضها الآخر بواسطة البرّ. ولهذا حرص الإفرنج في العصور الوسطى بعد سيطرتهم على بيروت ومدن الساحل، على الاهتمام بتحصين مرفأ بيروت، وبالتالي تحصين المدينة، ليتمكنوا من الدفاع عنها ضدّ المسلمين.

ولمّا استعاد المسلمون بيروت ومدن الشام، حرص الأمير بيدمر الخوارزمي (المتوفى 1387م) على الاهتمام بمرفأ بيروت وتحسينه، لا سيّما وأنّه استخدمه لتعمير وصناعة السفن الحربية، فأمر بقطع الأخشاب من حرج بيروت، لصنع الشواني والسفن، فصنعها ما بين المسطبة أي المصيطبة وساحة بيروت والميناء. وممّا يلاحظ أنّ المنطقة المحاذية لدارة آل بيهم وآل سلام في المصيطبة ما تزال تعرف حتى اليوم باسم «العمارة». وكان الأمير فخر الدين المعني قد أمر بردم مرفأ بيروت تخوّفًا من الأسطول العثماني واتّقاء لهجماته.

ولمّا سيطر العثمانيون على بيروت وبلاد الشام عام 1516م، شعروا بأهميذة مرفأ بيروت، كما شعرت الدول الأجنبية بأهميّة هذا المرفأ، سواء على الصعيد الاقتصادي أم على الصعيد الاستراتيجي. ولهذا بدأت أهمية بيروت كمدينة ناشئة تظهر بوضوح. وفي القرن الثامن عشر الميلادي بدأت بيروت تحتلّ مكانة اقتصادية بارزة، وأصبحت أكثر مدن الساحل الشامي تجارةً وسكّانًا وذلك بفضل مينائها وعوامل اقتصادية أخرى. وهذا ما دفع التجار الأجانب لا سيّما الفرنسيين المقيمين في صيدا، الكتابة إلى حكومتهم في عام 1753، وطالبوا إرسال بعض التجّار والصنّاع إلى بيروت وجوارها من بين الذين يفهمون في غزل القطن لتوجيه الصناعة والتجارة بأسلوب مناسب.

وأشارت الدراسات التاريخية والتقارير القنصلية بأنّ مرفأ بيروت كان منذ القدم من أصلح الموانئ لرسو السفن، وهو الميناء الذي تجد فيه المراكب الأمان في جميع الفصول. وكانت السفن ترسو قديمًا في داخله، فيضع البيارتة العاملون في المرفأ «الصقالات» - وهي ألواح عريضة من الخشب، يستعملها المسافرون جسرًا للنزول إلى البر، وإنزال البضائع إلى الرصيف. ومن هنا دخلت كلمة «سقالة» (SCALA) الإيطالية إلى اللغة التركية بمعنى «اسكلة» أي رصيف، وإلى اللغة العربية «سقالة» بمعنى لوح الخشب.

أمّا السفن الكبيرة القادمة إلى مرفأ بيروت، فكانت تقف في الصيف تجاه بيروت، في حين تضطر في الشتاء للالتجاء إلى خليج سيّدنا الخضر عليه السلام قرب الكرنتينا، أو عند مصب نهر بيروت.

وكانت منازل الأجانب، ومنازل بعض قناصل الدول الأجنبية، تقع في الجهة الجنوبية من ميناء بيروت. كما تركّزت الكثير من الخانات – الفنادق – إزاء المرفأ وبجانبه، وذلك لتسهيل إقامة التجار والوافدين من الخارج. وأشارت التقارير والدراسات التاريخية إلى أنّ نرفأ بيروت لا سيّما في القرن التاسع عشر، كان بمثابة «خليّة نحل» حيث يلتقي التاجر البيروتي، بالتاجر الفرنسي، والتاجر الإيطالي، والتاجر المالطي، والتاجر النمساوي. كما يلتقي بتجار الإسكندرية ودمياط والمغرب وتونس والجزائر. ويلتقي التاجر البيروتي بتاجر الجبل اللناني، والتاجر الدمشقي، والحلبي، والحمصي، والحموي وهكذا.

وأكّد القنصل الفرنسي هنري غيز، بأنّه بعد أن عاد إلى بيروت عام 1824 «استطعت أن أتتبع ازدهارها خلال فترة أربعة عشر عامًا، في إبان نهضة صناعتها الحقيقية وتضخّم ثروة سكانها. وهذه المدينة بالنسبة لعدد سكانها، تعدّ رابعة مدن سوريا، فهي دون طرابلس التي تأتي في الرتبة بعد الشام وحلب ...» غير أنّه أكّد في مكان آخر «بأنّ بيروت تتقدم باضطراد وتوشك أن تعدّ بعد الإسكندرية وإزمير. لقد أنشئت فيها قنصليات لجميع الدول تقريبًا، ومؤسسات تجارية، وفنادق...». وأشار إلى أنّ من أهمّ تجّار بيروت هم تجار آل بيهم.

وكانت حركة التجارة في ميناء بيروت حركة نشطة، حيث كان الجبل اللبناني يزوّد تجار بيروت بـ 1800 قنطار من الحرير، ويتم تصديرها عبر مرفأ بيروت بواسطة مراكب أوروبية ومحليّة، يصدّر معظمها إلى دمياط والإسكندرية والمغرب وتونس والجزائر. وتعود هذه المراكب محمّلة بالأرز والكتّان والأنسجة وجلود الجواميس من مصر، وتحمّل العباءات من تونس. كما تحمّل موانئ المغرب العربي بعض السلع الأوروبية التي تحتاج إليها بيروت ومدن الشام. وقدّر مجموع ما استوردته بيروت سنويًا في أوائل القرن التاسع عشر ومن بين ذلك تجارة آل بيهم حوالي (200) مئتي ألف قرش.

ويرى جون كارن – وهو معاصر – بأنّ بيروت مركز تجارة الدروز والموارنة، إليها يصدّرون قطنهم وحريرهم، فيأخذون عوضه الأرز والتبغ والنقود، ثمّ بهذه يشترون القمح من سهول البقاع وحوران. ولا سكّ أنّ الحرير الخام أهم مادة تجارية تتعاطاها بيروت عامة وآل بيهم خاصة، تأتي بعدها مواد القطن والزيتون والتين، وهي كلّها تصدّر إلى القاهرة ودمشق وحلب.

وأضاف قائلًا: «وما زال النشاط التجاري في بيروت يزداد يومًا بعد يوم». ونظرًا لأهمية مرفأ بيروت، فقد أكّد جون كارن المعاصر للقرن التاسع عشر هذه الأهمية قائلًا: «لعلّ ميناء بيروت أفضل الموانئ على طول الشاطئ، يؤمّن الرسو فيه إلى حد بعيد، وقد بدرت في الآونة الأخيرة بوادر من حركة جديدة، أغرت بعض أصحاب المناسج في أوروبا أن يهتموا لإنشاء الأعمال والمتاجر في هذه البقعة، فأقدم تجار كثر على النزول في المدينة، وهم فيها يعيشون عيشة بذخ في منازل مريحة، ذلك بأنّ المنازل التي ابتناها الأوروبيون مؤخرًا جيّدة متينة، بينما المنازل التي ابتناها الأهلون أقل مادة، فهي ترشّح شتاء وتدخلها الرياح...».

ونتيجةً لتطوّر التجارة في بيروت ونظرًا لدور تجّار بيروت وتجّار آل بيهم، وتزايد أهمية مرفأها، فقد ظهرت مرافئ متخصصة في المرفأ نفسه وبمحاذاته. ومن بين هذه المرافئ والموانئ: ميناء الأرز، ميناء البطيخ، ميناء الخشب، ميناء القمح، ميناء البصل. وكانت بعض هذه الموانئ لا سيّما ميناء الخشب ما يزال موجودًا قبيل الحرب اللبنانية عام 1975.

وبسبب هذا التطور الاقتصادي الضخم لمدينة بيروت ولمرافئها، فقد حرصت الدول الأوروبية على اتخاذ مقار لها، بافتتاح قنصليات لم تكن موجودة في الأصل، بعد أن صارت هذه المدينة مركزًا تجاريًا واقتصاديًا مهمًا. وقد بلغ معدلّ السفن الإنجليزية في مرفأ بيروت (150) سفينة في كلّ عام.

وكانت قلعة بيروت الشهيرة بالقرب من الميناء. وهي تعتبر من الملامح الأساسية لميناء بيروت. وقد أشار الرحّالة محمد بيرم الخامس التونسي في أواخر القرن التاسع عشر في كتابه «صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار» إلى مرفأ بيروت واصفًا إيّاه بقوله:

«وصلنا إلى مرسى بيروت أعظم مراسي ولاية الشام المعروفة بسورية... فنزلت هناك، وكانت المرسى صعبة جدًا، لبعد إرساء الباخرة عن الشط وركوبنا في زوارق مع هيجان البحر. وبعد أن خلّصنا رحلنا من الكمرك الذي لم نر من أهله إلّا خيرًا. دخلنا إلى البلاد راجلين لقربها وعدم وجود ما يركب حول الكمرك. فدلّني رجل من المتشبثين بخدمة المسافرين على منزل لأحد الإفرنج، مثل منازل أوروبا المتوسطة الحسن وأخذت به بيتًا واسعة ذات حجرة للنون والصناديق وحجرة للجلوس، واغتسلت في حمّامه وبتنا تلك الليلة والأكل فيه حسن...».

بالإضافة إلى ذلك، فقد استأثر المرفأ بعدد كبير من المؤسسات الرسمية العثمانية منها مبنى البنك العثماني ومبنى البريد وسواهما من المباني والمؤسسات. وقد أشار الرحالة الروسي كريمسكي من خلال رسائله المعروفة إلى ذلك بقوله: «من ينتظر رسالة يأتي بنفسه إلى مبنى البريد قرب المرفأ الذي ينقسم إلى مراكز يختص كلّ منها بالبريد الوارد من بلد أجنبي معيّن. هناك مركز للبريد الوارد من النمسا وآخر من فرنسا أو روسيا أو إتكلترا....».

وبصورة عامة، فإنّ الاهتمام بدأ يتزايد تباعًا بمرفأ بيروت بعد تشجيع رجالات آل بيهم لأبنائهم وللشركات العثمانية والأجنبية الاهتمام بهذا المرفأ. ففي سنة 1863 تقدّمت شركة «مساجيري مار يتيم» بمشروع مرفق بالخرائط لتحسين هذا المرفأ، وقدّمته لأحمد قيصرلي باشا حاكم ولاية صيدا حيث كانت بيروت تتّبع لها، وقدّرت نفقات هذا المشروع بـ 6.371.300 فرنك (ستة ملايين وثلاثمائة وواحد وسبعين ألف وثلاثمائة فرنك)، غير أنّ هذا المشروع لم ينفّذ ولم يوضع موضع التنفيذ إلا عام 1880 بعد أن فشلت بلدية بيروت عام 1879 في نيل امتيازه، وبعد أن فشلت شركة طريق بيروت – دمشق من الحصول على امتياز هذا المشروع.

وبعد اتصالات مكثّفة صدرت إرادة سلطانية مؤرّخة في 19 حزيران 1887 نال بموجبها يوسف أفندي المطران امتياز مشروع تطوير وتحسين مرفأ بيروت ولمدّة ستين عامًا تنتهي في 19 تموز عام 1947، وقد اشترط صاحب الامتياز المباشرة بالعمل بعد سنتين وإنجازه في خمس سنوات على أن يكون طول الرصيف (1200)) متر. واحتفظت الحكومة العثمانية بحقّ ابتياع هذا المشروع بعد ثلاثين سنة. واشترطت الإرادة السلطانية على السفن الداخلة إلى المرفأ دفع رسوم الدخول والرصيف، أو دفع الرسوم إذا كانت هذه السفن لا تقترب من الرصيف.

وفي سنة 1888 – وكانت بيروت قد أعلنت ولاية – تألّفت الشركة العثمانية لمرفأ بيروت وأرصفته ومخازنه، برأس مال قدره خمسة ملايين فرنك. وكانت هذه الشركة فرنسية، ممّا أثار حفيظة الإنجليز الذين أشاعوا أنّ هذا المشروع غير مفيد، لعدم وجود خط حديدي بين بيروت والمرافئ الشامية، على غرار ما أشاعوه ضد الفرنسيين عند قيام مشروع قناة السويس في مصر.

لقد بوشرت أعمال تحسين المرفأ عام 1889 وقامت بها شركة «موزي وطونن ولوزي» غير أنّ المشروع واجه الكثير من التعقيدات، ممّا اضطر هذه الشركة للستدانة من شركة خط حديد بيروت – دمشق – حوران، مبلغًا وقدره خمسة ملايين فرنك لمتابعة أعمالها.

وبعد انتهاء مشروع تطوير المرفأ عام 1894 لاستقبال السفن الكبيرة التي بقيت لفترة طويلة عاجزة عن تفريغ السفن مباشرة على رصيف المرفأ فقد وقعت خلافات بين شركة المرفأ وبين الحكومة العثمانية ووزارة البحرية العثمانية، ومن أسباب هذه الخلافات مسألة دخول البوارج الحربية العثمانية إلى المرفأ، والخلافات بين شركة المرفأ وبين إدارة الجمارك بشأن رسم الحمّالين والمخازن وتعيين حدود منطقة شركة المرفأ. كما وقع خلاف زيادة رسوم الدخول للمرفأ ممّا أثّر على حركة الصادرات والواردات، حيث تحولّت إلى بقيّة المرافئ الشامية القريبة. كما أنّ بعد المسافة بين نهاية خط حديد بيروت – دمشق وبين مرفأ بيروت كان من جملة أسباب الخلافات بين الجانبين ومن أسباب تأثر حركة المرفأ التجارية.

والحقيقة فإنّ هذه الأزمة بين الجانبين سرعان ما انتهت، بل إنّ المرفأ ازدادت أحواضه وأرصفته ما بين رأس الشامية إلى رأس المدوّر. وبدأ يستقبل سفنًا أكثر وأكبر اتّساعًا بما فيها قوافل الحجاج. غير أنّ امتداد مشروع سكة الحديد إلى محاذاة رصيف المرفأ في أوائل القرن العشرين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، دعا الحجاج المسلمين للتوجّه للحج إلى الأراضي المقدّسة عبر هذا الخط.

ومهما يكن من أمر، فقد شهد مرفأ بيروت قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها تطورًا ملموسًا أثّر تأثيرًا مباشرًا في الحياة الاقتصادية البيروتية واللبنانية والشامية. ولا يزال بعض البيارتة يذكرون نزول الطائرات الخاصة المائية في مرفأ بيروت وذلك قبل إنشاء مطار بئر حسن في منطقة المدينة الرياضية اليوم.

الثكن (الثكنات) العسكرية (السرايات):

الثكنات وكانت تقع غربي مدينة بيروت القديمة على ربوة مرتفعة فوق سوق المنجدين (شارع المصارف حاليًا) إزاء شارع طلعة الأميركان قريبًا من بوابة يعقوب. وقد اتّخذت هذه القشلة من قبل والي بيروت مركزًا للولاية في أواخر القرن التاسع عشر، ومن ثمّ اتّخذت من قبل المفوّض السامي الفرنسي مركزًا له في عهد الانتداب الفرنسي، كما اتّخذتها الحكومة اللبنانية مركزًا لها في الفترة الممتدة بين (1943-1981) وذلك قبل انتقال مركز الحكومة الرسمي (السراي) إلى مركزها الجديد في الصنائع ثمّ أعيد مقرّ الحكومة الرسمي بعد سنوات إلى السراي الكبير. وقد وصف تقويم الإقبال موقع الثكنة العسكرية العثمانية بالقول بأنّها «غربي المدينة وفي أحسن مواقعها اللطيفة. وكان لها في أوائل القرن العشرين عدّة مسؤولين عسكريين ومدنيين وإمام وهم على التوالي: قومندان الموقع: سعادتلو علي باشا، كاتب القومندان: الملازم عبد الوهاب أفندي، بينباشي التابور (الطابور): رفعتلو عثمان رائف أفندي. وكان يقع إلى شمال الثكنة المستشفى العسكري العثماني (الخستة خانة) وهي غير المستشفى العثماني الذي بني في أواسط القرن الثامن عشر في جانب السور وقد كان في المحلّة المعروفة بالتكنات بجوار بوابة يعقوب. أمّا هذه (الخستة خانة) فقد أنشئت في أواسط القرن التاسع عشر مع القشلة (الثكنة) وكان هذا المستشفى قد اتخذ كمقر للقضاء اللبناني (العدلية) المحاذي لكنيسة الكبوشية (قبل نقل العدلية إلى مقرّها الجديد قرب منطقة المتحف الوطني)، وهي الآن مقرّ مجلس الإنماء والإعمار.

الجوامع والزوايا والكنائس والمعالم الدينية:

أنشئ في باطن بيروت المحروسة في داخل سورها وخارجه وفي ضواحي المدينة العديد من الجوامع والمساجد والزوايا الدينية طبعت بيروت بالطابع الإسلامي نظرًا لكثرة هذه المعالم الدينية الإسلامية، والتي أنشأها المسلمون عبر مختلف العهود الإسلامية، علمًا أنّ الكثير منها هدم في عهد الإنتداب الفرنسي لا سيّما الزوايا – المساجد التي لم يبق منها في باطن بيروت سوى زاوية الإمام الأوزاعي في سوق الطويلة وزاوية ابن عراق. وكان يوجد إلى جانب هذه المعالم الإسلامية بعض المعالم المسيحية لا سيّما الكنائس والأديرة وكنيس لليهود. ويمكن ذكر هذه المعالم الدينية التي كانت ما تزال قائمة في العهد العثماني أو التي أنشئت قبله أو خلاله وهي على النحو التالي:

الجامع العمري الكبير، الجامع الجديد (جامع شمس الدين)، جامع الدباغة (أبو بكر الصديق)، جامع السرايا (الأمير منصور عساف)، جامع المجيدية، جامع النوفرة (الأمير منذر) جامع زقاق البلاط، جامع البسطة التحتا، جامع البسطة الفوقا، جامع الحرج (الحلبوني والحوري)، جامع رأس النبع (وهو غير جامع الصيداني في رأس النبع أيضًا)، جامع برج أبي حيدر، جامع المصيطبة، جامع الزيدانية، جامع الحمراء، جامع قريطم، جامع عين المريسة، جامع الداعوق، جامع القنطاري، جامع الكرنتينا (خالد بن الوليد)، جامع الخضر، جامع الإمام الأوزاعي. وقد أنشئ مساجد أخرى بعد انتهاء الحكم العثماني وهي: جامع الإمام علي، جامع الحسنين، جامع الأشرفية (علم الشرق)، جامع الصيداني، جامع عائشة بكار، جامع القصار، جامع خليل شهاب، جامع شاتيلا، جامع محمد الأمين (مكان زاوية أبو النصر) وقد نفّذ على نفقة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، جامع الشهداء، جامع البرجاوي، وقد أنشئ في السنوات الأخيرة بعض المساجد منها: مسجد الحوري (جامعة بيروت العربية)، مسجد الخاشقجي (قرب جامع الشهداء)، مسجد الدنا، مسجد جمال عبد الناصر، مسجد عمّاش، جامع العاملية، جامع طبارة، جامع الفحل، جامع أبو غزالة، جامع السلام، جامع بوبس، جامع محمد الفاتح، جامع شهاب، جامع عمر بن عبد العزيز، جامع عثمان بن عفان، جامع حمد (مكاوي) وسواها.

أمّا الزوايا – المساجد والتي كانت غالبيتها في باطن بيروت فهي زاوية الإمام الأوزاعي، زاوية باب المصلّى، زاوية التوبة (الشيخ عبد القادر الجيلاني)، زاوية الخلع (البياطرة)، زاوية باب الدركاة (الزاوية العمرية)، زاوية الشيخ حسن الراعي، زاوية الشهداء، زاوية الشيخ محمد خضر العراقي، زاوية القطن، زاوية الشيخ المجذوب، زاوية المغاربة، وكان يقع بجانب السور شرقًا زاوية أبو النصر، كما وجد في منطقة رأس بيروت (الحمراء) زاوية الحمراء، ووجدت زاوية سيّدنا البدوي بالقرب من جمرك ميناء بيروت بجانب خان البربير، وزاوية ابن عراق عند مدخل سوق الطويلة، وزاوية القصّار وسواها.

أمّا الملامح الدينية المسيحية فقد تمثّلت ببعض الأديرة والكنائس منها: دير الأرمن، دير البادرية (الآباء الكبوشيين) دير العازارية، دير مار متر (الأشرفية)، كنيسة الروم (كاتدرائية القديس جاورجيوس)، كنيسة الكبوشية، كنيسة مار الياس للروم الأرثوذوكس، كنيسة مار الياس للكاثوليك، كنيسة مار جرجس للموارنة، كنيسة مار مخايل، الكنيسة المسكوبية، بالإضافة إلى كنيس واحد لليهود في منطقة وادي أبو جنيل قرب منطقة باب إدريس وما يزال قائمًا.

الحمّامات والخانات:

لأسباب تتعلّق بالطهارة والنظافة وبالمعتقدات الإسلامية شهدت المدن الإسلامية ومنها بيروت المحروسة إنشاء الكثير من الحمامات لا سيّما في باطن بيروت أو بالقرب من المساجد والزوايا لأنّ التطهّر يسبق عادة الصلاة. ومن بين هذه الحمامات: حمّام الأمير فخر الدين الشهير، الحمام الكبير، حمام الأوزاعي، حمام السرايا، حمام الشفاء، الحمام العمومي، الحمام التحتاني، الحمام وهو حمام السرايا كان يقع في باطن بيروت قرب باب السرايا (السراي) بالقرب من جامع السرايا. وقد ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته (التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية) عندما زار بيروت في القرن السابع عشر الميلادي حمام الأمير فخر الدين وسواه من الحمامات في بيروت وممّا قاله: «... وأمّا حمّاماتها فأربعة: الأوّل حمّام الأمير فخر الدين بن معن، الثاني حمّام القيشاني، الثالث حمّام الأوزاعي، الرابع قديم لا يعرف له اسم. وكلّها مهجورة ما عدا حمّام الأمير فخر الدين. وكانت أجرة واستثمار حمّام السرايا في القرن التاسع عشر مرتفعة جدًا، وهذا ما أكّدته معاملات عقود الإيجار الواردة في سجلات المحكمة الشرعية في بيروت. وعرف حديثًا حمّام البسطة الذي ما يزال عاملًا حتى اليوم في منطقة زقاق البلاط، وممّا أطلق عليه اسم حمّام حديثًا حمّامات السباحة على البحر منها «الحمام العسكري» في منطقة المنارة وحمّام النورماندي وسواهما.

ولأسباب اقتصادية واجتماعية شهدت بيروت إنشاء الكثير من الخانات وهي بمثابة فنادق للتجار والقادمين من خارج المدينة مع دوابهم وحيواناتهم ومن بين هذه الخانات: خان أنطون بك، خان البربير، خان البيض، خان الحرير، خان حمزة سنو وسلوم، خان الدركاه (الدركه) خان سعيد آغا، خان الصاغة، الخان القديم، خان الملاحة، وخان الوحوش. وقد تحوّل بعض هذه الخانات في عهد الانتداب الفرنسي إلى دور للسينما مثل سينما «أمبير» فيما كانت سينما «أوبرا» اسطبلات للأمير فخر الدين المعني في فترة حكمه، كما تحوّلت بعض الخانات إلى مستودعات أو هدمت وأقيم مكانها مؤسسات وأبنية تجارية. وكان التجار مع القادمين من خارج بيروت يبيتون ليلة أو أكثر في هذه الخانات لقاء أجر معيّن، كما كان النازل في الخان يدفع عن دابته في حال اصطحابه لها، مقابل إقامتها وغذائها. كما وجدت بعض الخانات الراقية للتجار والأجانب.

الساحات والسرايات والبنوك:

تميّزت بيروت العثمانية بوجود بعض الساحات الكبيرة والصغرى، كانت تخصّص عادة لبيع منتجات أو سلع معينة، في حين كانت بعض الساحات الأخرى تخصّص للعربات التجارية وعربات النقل، ومن بين هذه الساحات التي ما يزال بعضها قائمًا:

ساحة باب المصلّى، ساحة بيت طراد، ساحة الخبز، ساحة دير العازارية، ساحة الزبيب، ساحة السمك، ساحة السور، ساحة الشهداء، ساحة القمح، وساحة النجمة (شارع المعرض)، وساحة باب يعقوب، بالإضافة إلى ميدان هام كان يوجد في إطار مزرعة رأس النبع وهو ميدان البلشة (ميدان سباق الخيل حاليًا) حيث كان يمارس البيروتيون هواية ركوب الخيل والهوايات الأخرى.

أمّا السرايات فأهمّها سراي الأمير عساف أو المسمّاة «دار الولاية» نسبة إلى القصر الذي أنشأه الأمير فخر الدين الثاني أمير جبل لبنان وبيروت، وكانت هذه السراي مركزًا للحكم في بيروت. وكان يوجد أمامها جامع السرايا (جامع الأمير منصور عساف) الذي ما يزال موجودًا في حين أنّ السراي هدمت، كما كان يوجد أمامها حمام السرايا. أمّا السرايات الأخرى فهي كانت في الأصل ثكنات عسكرية أو مستشفيات (كما سبق وأشرنا) فحوّلها المندوب السامي إلى سراي للمفوضية الفرنسية، ثمّ اتخذتها الحكومة اللبنانية منذ العام 1943 مركزًا رسميًا لها قبل أن تنتقل في العام 1981 إلى سراي الصنائع، ثمّ بعد سنوات أعيد المقر الرسمي إلى السراي الكبير.

كما أقيمت مؤسسات مصرفية أجنبية وعمانية كان أهمها «البنك العثماني» الذي تميّز بضخامة مبناه وبنمط معماري خاص، وقد كان مركزه في منطقة المرفأ. وكانت غالبية العمارة البيروتية يظلّلها القرميد الأحمر، وما يزال بعضها ماثلًا إلى اليوم.

القيساريات (الأسواق المسقوفة):

ارتبط إنشاء القيساريات بإقامة الأسواق التجارية والحرفية والأسواق المختلفة، وهي عبارة عن أسواق مسقوفة لاتّقاء الحر والشمس والأمطار، وهي شبيهة بسوق الحميدية في دمشق (الذي ما يزال موجودًا) ومن بين هذه القيساريات: قيسارية الأمير سليمان أبو اللمع، قيسارية الشيخ الأمير شاهين تلحوق، قيسارية الحرير، قيسارية الأمير سلمان الشهابي، قيسارية الأمير منصور الشهابي، قيسارية الصاغة، قيسارية العطارين، قيسارية الأمير عبد السلام العماد. وكانت قيسارية الأمير منصور الشهابي تقع في سوق البازركان في باطن بيروت بالقرب من قيسارية الصاغة|، وكانت تضم في أحد جوانبها دكاكين للخياطين العربي (الشروال، القنباز، الصداري..)، بينما كانت قيسارية الأمير عبد السلام العماد وقيسارية الأمير شاهين تلحوق تقعان قرب بعضهما بين سوق البازركان والجامع العمري الكبير. وقد عرفت قيسارية عبد السلام العماد باسم قيسارية العطارين. وما تزال المنطقة تعرف حتى اليوم باسم «سوق البازركان».

المدارس والمعاصر والمقاهي والموانئ:

انتشرت في بيروت المحروسة بعض المدارس أهمّها مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، مدارس الإمام الأوزاعي، المدرسة الأزهرية، المدرسة الإسلامية الحديثة، مدرسة الشيخ عبد الباسط الأنسي، مدرسة الرشيدية، مدرسة زاوية الشهداء، مدرسة الصنائع، مدرسة المجذوب... بالإضافة إلى بعض المدارس التبشيرية التي انتشرت في بيروت وضواحيها وفي الجبل، وبعض الجامعات وهي: الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية) والجامعة اليسوعية والمدارس الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية وسواها، وكانت كلّها خارج السور.

وشهدت بيروت لا سيّما في باطنها بعض المعاصر الخاصة بعصر الزيتون والسمسم وبعض المواد الزراعية الصناعية، ومنها: معصرة بني دندن، معصرة بني السبليني، معصرة الحمراء، معصرة السقعان (أي آل السجعان)، ومعصرة سيف الدهان، وفيما بعد معصرة بني غندور ومعصرة بني جبر. بالإضافة إلى وجود جرينة للحنطة والحبوب، وكانت تقع في آخر سوق الحدادين في باطن بيروت في الطريق إلى أسكلة (ميناء) بيروت.

أمّا مقاهي بيروت التي كانت مركزًا لتجمع البيروتيين والقادمين إلى بيروت، فكانت تشهد بعض حكايا البطولات العربية والإسلامية والبحث في أمور الساعة، وكانت صور الزعامات البيروتية والقبضايات تزيّن جدران هذه المقاهي (كان آخرها قهوة المتوكل على الله – الحاج سعيد حمد – في البسطة الفوقا) ومن بين هذه المقاهي: قهوة السوق، قهوة سوق الأساكفة، قهوة الأمير علي الشهابي، قهوة الشهداء، قهوة العسس، قهوة المعلقّة، وقهوة النوفرة. أمّا قهوة الحاج داوود الشهير بيروتيًا ولبنانيًا ولدى العرب والأجانب فقد استمرّت إلى فترة متأخرة تستقبل روّادها لا سيّما قبل أحداث العان 1975. كما برزت منذ العهد العثماني إلى عام 1975 مقهى ومطعم أبو عفيف البرهومي في ساحة الشهداء، و «قهوة القزّاز» الشهيرة في ساحة الشهداء، ومقهى «لاروندا» في ساحة البرج، ومقهى «سان رايز» في المنارة، ومقهى «هورس شو» في الحمراء، ومقهى الروضة (شاتيلا) في المنارة، ومقهى «سيتي كافيه» في شارع السادات، ومقهى «المودكا» في الحمراء، ومقهى الجميّزة وسواها.

ونظرًا للأهمية الاقتصادية التي بدأت تتبوّأها بيروت، فقد تطوّر مرفأها تطورًا مهمًا، وانقسم بدوره إلى عدّة موانئ صغرى متخصّصة بإنزال أصناف معينة من أصناف التجارة، لهذا وجدنا عدّة موانئ منها: ميناء الأرز، ميناء الخشب، ميناء القمح، ميناء البطيخ، ميناء البصل، ميناء الشامية بالإضافة إلى ميناء قديم غربي ميناء بيروت عرف باسم ميناء الحسن (الحصن)، وما تزال المنطقة تعرف بهذا الاسم إلى الآن.

هذا ولا بدّ من الإشارة بأنّ باطن بيروت كان بمثابة وادٍ كبير بشكل عام إذا ما قورن وقوبل بالمناطق القربية المطلّة على المدينة، فهي مناطق أعلى منه ومنها على سبيل المثال مناطق طلعة الأميركان والثكنات وزقاق البلاط والبسطة والمصيطبة زبرج أبي حيدر ورأس النبع والأشرفية. وهذا ممّا سهّل جر المياه من المناطق إلى داخل البلد لا سيّما من منطقة رأس النبع وبالذات من عين الكراوية التي جرت مياهًا إلى باب الدركاه عبر قناة الدركاه المعروفة. وبالرغم من هذه الطبيعة لمستوى الأرض في داخل سور بيروت وخارجه، غير أنّ في الأرض ذاتها في داخل البلد كانت بدورها غير مستوية، لهذا وجدنا أدراج عديدة في داخل البلد البلد تصل الشوارع والأسواق بعضها بالبعض الآخر ومنها درج خان البيض، ودرج شيخ السربة ودرج سوق النحاسين ودرج سوق العطارين... بل برمتها خارج السور عرفت باسم وادي أبو جميل، ومنطقة أخرى عرفت باسم الخندق العميق.

هذه هي أهمّ الملامح العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية في بيروت العثمانية، وهي بطبيعة الحال تشكل أكثر هذه المظاهر، علمًا أنّ تطوّر مدينة بيروت عبر العهود كان يقضي على بعض هذه الملامح والمظاهر لتحلّ مكانها ملامح عمرانية جديدة. كما أنّ الاستفاضة في دراسة سجلات المحكمة الشرعية في بيروت والوثائق الأخرى، ستؤدي إلى استكشاف المظاهر العمرانية الأخرى التي اندثرت، وستؤدي إلى المزيد من الحقائق الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والإدارية. ولا بدّ من الإشارة، إلى أنّه من خلال هذه الدراسة وما رافقها من وثائق وصور وخرائط يتبيّن للقارئ بيروت المحروسة بين الأمس واليوم.