الطرق في بيروت المحروسة

في شهر تشرين الأول عام 1918 دخلت جيوش الحلفاء بيروت، وإنقضت بذلك حقبة من تاريخ المدينة إمتدت حوالي خمسمائة سنة.

ولكن تغيير الحكام، لا يستتبعه بالضرورة ولا بالسرعة الموازية الملحوظة، تغيير في العادات والتقاليد والأعراف ونظم المعيشة ومناهج التفكير. وأول ما يطال التغيير أنظمة البناء والتخطيط المدني.

كانت بيروت العُثمانيّة مدينة محصنَّة ضمن السور، الذي كان يمتد من سوق أبي النصر نزولاً إلى المرفأ، ويتجه من هذا الأخير غرباً إلى جهة خان انطون بك، ثم يسير جنوباً حتى ساحة السور أو عصور التي أصبحت فيما بعد ساحة رياض الصلح، ثم يتجه السور شرقاً إلى كنيسة مار جرجس المارونيّة فقهوة القزاز.

 وكانت بيروت المحصنَّة بالسور والقلعة والحصن، قد فقدت هذه التحصينات مع خروج جيوش إبراهيم باشا المصري منها سنة 1840، فكان السور قد تداعى في أكثر نقاطه، وكانت بقايا أبوابه لا تزال مائلة للعيان في أوائل عهد الإنتداب الفرنسي، كباب يعقوب وباب السراي وباب الدركة. فيما كانت قلعة بيروت قد تهدمت، وبقيت بعض أنقاضها، التي أكتشفت مؤخراً، قرب سوق الخضار القديم.

مخطط نادر لمدينة بيروت يعود للعام 1841

يوم الإثنين التاسع عشر من شهر ربيع الأول عام 1260هـ 1824م قدم الوزير المشير محمد نامق باشا سر عساكر بريّة الشام من الأستانة إلى بيروت، فمدحه مفتيها القاضي الشيخ أحمد الغر بقصيدة مطلعها:

رب الأنام الرحيم المانح الـرازقْ بَرِّيَّةُ الشام بُشْراها بها رافــقْ
سماءَ أرضِ الدُّنَا منظورة الخالقْ وقد تجلَّى عليها بالرضَى فغـدت
 والعدلُ ظلَّلَها في وقتها الرايــقْ  وحلَّها الأنسُ حيث الفَرْحُ عَمَّ بها
إذ حلَّ فيها عَلِيُّ الهِمَّةِ النامــقْ وبالهنا والصـفا والعِزّ نمَّقــها

    

ولكن طرقات البلدة لم تمكن الناس حينئذ من إظهار الأنس والفرح المشار إليهما. فالوالي المذكور لما قدم بيروت ليتولاها ويستلم مأموريته، جاء بعربة فلم تتجاوز في سيرها ساحة البرج من باب يعقوب، وتعذر عليها السير واستعصي السبيل وتوعر المسلك. إذ كان عرض بعض الطرق نصف متر والعريضة متراً واحداً، وكانت الأوحال تبتلع قصير القامة شتاءً وتغمره الرمال صيفاً، أما الطويل فإن سلم رأسه من وخز الصّبير، لا يسلم من أغضان الأشجار، إذ كانت طرقات المدينة عبارة عن أزقة ضيقة ملتوية، حدَّ سور المدينة من إمتدادها.وأدى تكاثر السكان إلى انتفاء وجود شوارع رئيسيّة عريضة داخل المدينة، كما فرض في الوقت نفسه أماكن تواجد المرافق العامة، كالمدافن التي وجدت بجوار البلدة سواء مقبرة الباشورة، في موقعها الحالي، أم مقابر الخارجة والمصلي والمغاربة التي كانت في موقع سينما ريفولي.

 وفي غياب مركز خاص وحيد للمدينة، كما هو حال المدن الأوروبيّة، كان لبيروت عدة مراكز تمثلت في المساجد والكنائس وسراي الحاكم، فتوزعت الطرقات والبيوت حول النقاط المذكورة، وكذلك الأسواق والدكاكين والمحلات.

كان يُقصد بالطرقات الأزقة جمع زقاق، والزواريب من زاروب، والمعابر من معبور، قبل أن تشيع ألفاظ جديدة مثل كورنيس وأتوستراد وجادة ونفق.

يُذكر أنه كان لكل محلة من محلات بيروت القديمة داخل السور، مدخل وباب خاصات بها، فمحلة الحدرة مثلاً {إلى الجنوب من الجامع العمري الكبير}، كان لها باب منخفض على شكل قنطرة يقفل مساءً، ويُفتح صباحاً على زاروب تصطف على جانبه البيوت. وكان لمحلة الشيخ رسلان {تجاه الباب الشمالي للجامع العمري الكبير} باب يُفتح على زاروب بنيت فوقه وعلى جانبيه بيوت السكن. وقد يكون الأصل في ذلك عائداً إلى سبب أمني، أو قد يعود إلى كون هذه المناطق كانت في البدء، مساكن لعشيرة واحدة تتفرع منها البطون والأفخاذ، أو مساكن لعائلات جمعت بينها روابط القربى والمصاهرة.

 يُذكر أن بعض أوصاف الطرقات عُرفت من أسمائها. من ذلك سوق الفشحة، التي كانت تربط بين ساحة البرج وباب إدريس، فقد زاد في ضيقها عرض بضائع التجّار في وسط الطريق مما لم يكن يترك مساحة للمرور تزيد على الفشخة. ومنها سوق الطويلة أو الطريق الطويلة، والتي تميزت بطولها عن بقية المدينة. ومنها محلة زقاق البلاط التي رُصفت أيام إبراهيم باشا بالبلاط، فأشتهرت بهذا الأسم وأحتفظت به إلى اليوم.

 أدى ضيق مساحة المدينة داخل السور، إلى تخصيص الطبقات الأرضية في الأبنية للدكاكين والمحلات التجارية ومستودعات للغلال، وبنيت فوقها البيوت السكنيّة.

ويبدو أن ضيق طرق بيروت القديمة، عائد إلى التقاليد الإجتماعيّة والأعراف الدينيّة والأخلاقيّة التي كانت سائدة في المدينة، ولدى مختلف سكانها من الطوائف والمذاهب. والتي تركَّز على دور البيت وإستقلاليته وكونه مقراً دائماً للحريم طيلة اليوم، ليلاً ونهاراً، وجنَّة للرجل بعد عناء النهار وتعب العمل. الأمر الذي أدى إلى عدم الإهتمام بعرض الشوارع، فبقيت ضيقة، في حين تم التركيز على إتساع المنازل وأرتفاع سقوفها، على عكس ما حصل فيما بعد، مما لا نزال نعيشه اليوم، إذ غدت الشوارع عريضة واسعة وغدت البيوت صغيرة ضيقة، سقوفها منخفضة، وغرفها صغيرة، وتبع ذلك أن أصبحت غالب مدة الإقامة خارج البيت، في أماكن العمل والمقاهي والمطاعم، أما البيوت فغدت للمنامة ليلاً فقط.

 إن أول طريق مدت على النمط الجديد خارج السور، كانت طريق الشام من ساحة البرج حتى غابة الصنوبر، ثم مدت طريق من خان أنطوان بك إلى البرج.

عندما جاء مدحت باشا والياً على سوريا سنة 1879م، قدم بيروت وعلم أن محلة رأس بيروت طيبة الهواء، واسعة المجال، محرومة من طريق تمر بها العربات، وباقية على طرقها القديمة، أواعز إلى البلديّة التي كانت حينئذ برئاسة فخري بك، بفتح طريق من المستشفى البروسي (الألماني قرب الجامعة الأميركيّة) إلى المنارة عرضه عشرون ذراعاً وابتاع أرضاً هناك ترغيباً لترقي أراضي المحلة.

 ومن الطرق القديمة خارج السور، طريق قديم كان يمر من القشلة (السراي الكبير) إلى الكنيسة الإنجيليّة ـ الأميركان ـ فالمدرسة الإنكليزيّة السوريّة (مسز موط ـ زقاق البلاط) وينعطف من هناك إلى دير مار إلياس في بطينا. وكانت تسير عليه المركبات والخيول وزوار مقام الإمام الأَوزاعي ومار إلياس وأهل منطقتي المصيطبة والزيدانيّة.

 ولما جاء عبد الخالق نصوحي بك متصرفاً على بيروت سنة 1886م رأى تحسين المدينة، فَشَرع في الطريق الممتد من البحر بمحاذاة خان أنطوان بك إلى محلة ميناء الحسن فرأس بيروت فالفنار (المنارة) وصولاً إلى محلة شوران. كما شرع بفتح الطريق التي تمر من أمام الجامعة الأميركيّة إلى قرب الفنار، ثم أوصلت تلك الطريق التي تمر بساحل البحر، بفتح طريق إلى جهة بيت قريطم وبيت طبارة الواقعة في أعالي شوران والتي لا تزال موجودة إلى الآن.

 فلما عاد نصوحي بك والياً على بيروت سنة 1894م رأى فتح طريق أخرى، واحدة مارة بمحلة الرمل من القنطاري غرباً حتى خندق اللبّان ـ الحمراء ـ ومنه إلى المنارة، والثانية من مدرسة الإنكليز إلى جبّ النخل (محلة قريطم) فشوران، والثالثة من المدرسة المذكورة إلى محلة المصيطبة.

 وبالنظر لتزايد العمران خارج السور أحيطت المدينة القديمة بطريق (شوسه) يستطيع الإنسان التجوّل فيها ماشياً على الأقدام بمدة نصف ساعة من جهة الميناء غرباً، فيذهب إلى ساحة القمح فباب إدريس فالثكنة العسكريّة ـ السراي الكبير ـ فساحة البرج فالحديقة الحميديّة حتى دار الحكومة ـ السراي الصغيرة ـ فباب الدباغة فالميناء.

 وكان محيى الدين حمادة أثناء رئاسته مجلس البلديّة سنة 1882م أدخل تحسينات على طرق بيروت وخاصة الطرق المتصلة بساحة برج الكشّاف، فقد شرع بتوسيعها، وجعل ممرَّ الدواب في وسطها وممرَّ الناس من جانبيها، ومدَّ بها خطين من البلاط فاصلين بين الممرين بحيث لا يتخطى أحد النوعين طريقه، وباشر بالطريق بين رأس بيروت ومحلة الزيتونة، وحسّن طريق باب إدريس حتى صارت تمر بها العجلات بسهولة للوصول إلى المرفأ.

 وكان طريق الفشخة (ويغان حاليًّا) أهمَّ طريق من طرقات بيروت الداخليّة، ونقطة الإتصال والمرور وللمشتري، ومركز القوت ومحط رجال أهل المدينة، ومستودع الحاجات اليوميّة التي لا غنى لهم عنها. وكانت الحاجة ماسَّة إلى إصلاحه لأن ما من إنسان (كما قيل) لم يذق مرارة المرور فيه فتقرر في البدء أيام الوالي خالد بك توسيعه إلى عشرين ذراعاً، فلما تعيّن نصوحي بك متصرفاً، اتفق على جعله ستة عشر ذراعاً، وكان عرضه في الأصل سبعة أذرع فما دون، وتقرر أن تمتد التوسعة من بنايات سرسق عند باب السراي إلى باب إدريس، وعينت لجنة لتخمين الأراضي والمخازن الواقعة على جانبيه من السادة: إبراهيم طيّارة، خليل البربير،عبد الرحمن عيتاني، محمد أبي عمر الداعوق، بشارة الهاني، نقولا منسى، حنا سكور طراد.

 ثم إختلف المالكون مع البلديّة فتألفت لجنة جديدة برئاسة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وعضوية نقيب الأشراف الشيخ عبد الرحمن النحاس ومحمد بيهم ـ رئيس البلديّة ـ ومحيى الدين القاضي ونخلة بسترس وجبران التويني وحبيب طراد ويُوسُف عرمان ويُوسُف المهندس. وقد تم تدشين مباشرة العمل في الطريق المذكورة في أيار سنة 1894م وسُمِّي (الشارع الجديد) وذلك في إحتفال كبير ألقى فيه رئيس البلديّة محمد بيهم خطبة قال فيها:

(أمر بديهي لا يختلف فيه اثنان: إن تزايد السكان يقضي بتوسيع المكان، وازدياد الحضارة يستوجب النضارة. بنت أسلافنا الأوائل رحمهم الله أبنية البلدة القديمة متلاصقة متراكمة اضطراراً ليكونوا داخل السور، ومع ذلك فقد فتحوا جزاهم الله خيراً شوارع كافية إذ ذاك لمرور وعبور الأهالي الذين لم يكونوا ليتجاوزوا العشرين ألفاً من النفوس، أمام الآن فحيث إتسع نطاق البلدة واستبدل السور الحجري بسور الأمن والأمان بظل حضرة مولانا وسيّدنا الخليفة الأعظم، فأينما اتجه الإنسان يجد الأبنية المشّيدة. ولما كان قد تضاعف سكان بيروت إلى خمسة بل إلى ستة أضعاف ما كانت عليه بتلك الأزمان، ولم تزل أسواقها على ما كانت عليه، وكان تكاثر العائلة القاطنة في بيت واحد يقضي عليها بتوسيع ذلك البيت بنسبة عددها، كان من باب أولى وألزم توسيع الشوارع والأسواق بما يعمّ نفعه عموم السكان ماديًّا وأدبيًّا وصحيًّا).

ونظم الشاعر مصباح رمضان تأريخاً لفتح الشارع الجديد فقال:

لخالدٍ همَّةٌ بالفخر تـــزدانُ في ظل سلطاننا عبد الحميد سمتْ
سوقٌ لبيروتَ إصلاحٌ وعِمْرانُ أيامه فتحت فيها نؤرِّخهــــا

كما نظم الشاعر أبو الحسن قاسم الكستي تأريخاً آخر فقال:

لما بدا هذا الطريق الجديــد عاد على بيروت عيد سعيد
ذو الحزم وإليها الهمام الوحيد لقد تولى فتحه خالــــد
إلى ذرى المجد بعزم شديــد من آل بابان الذين ارتقـوا
 بحكمة كان ورأي سديـــد فيا له من شارع وضعــه
 في زمن السلطان عبد الحميد تاريخه فتح جرى حكمــه

        

في السنة التالية لبدء توسيع شارع الفشخة، تقرر فتح طريق الدباغة من باب السراي ـ سوق سرسق ـ إلى ساحة المرفأ مروراً بسوق الخمامير (شرق شارع فوش) حتى القلعة القديمة، وذلك على نفقة مشتركة من البلديّة وشركة المرفأ. وإفتتح في شهر أيلول سنة 1901م طريق النوريّة (شارع البورصة فيما بعد).

وفي السنة نفسها قرر الوالي فتح الطريق من جامع المصيطبة إلى حرج الصنوبر فجوار مقام الإمام الأَوزاعي إلى برج البراجنة ليتصل بطريق صيدا الذي كان بوشر بفتحه تلك السنة. وبوشر سنة 1903م برصف الطرق المحيطة بالحديقة الحميديّة والسراي الصغيرة وسهلة البرج وباب إدريس حتى خان أنطوان بك. ومد خطوط السكة من المحطة الأولى إلى الرصيف أمام الجمرك.

 يُذكر أن السيول غالباً ما كانت تطغى، فيطوف سوق الحمّالين وتصل أجرة نقل العابرين إلى عشرين بارة وقد علت مياه الأمطار خمسة وسبعين سنتيمتراً داخل كنيسة الروم الأرثوذكس.

يُذكر أن رص الطرقات كان يتمّ بواسطة محدلة تجرها الثيران حتى سنة 1899م عندما جلبت البلديّة محدلة على البخار وكان تقرر أيام رئاسة فخري بك للبلديّة سنة 1879م ترقيم الشوارع للبريد ووضع لوحات بأسماء الشوارع في أول كل شارع وآخره، وحالت الموانع دون إتمام ذلك حتى سنة 1910م.

وإتخذت البلديّة في حينه عدة تدابير لتنظيم السير في الطرقات، منها أن لا يسوق رجل واحد أكثر من ثلاثة حمير لنقل الحجارة من المقالع إلى الورش، وأن لا يسير بها راكضاً، كما منع من لا يكون مربوطاً بكفالة من صاحب الحمير عن سوقها.

وتقرر رش الطرقات بالماء مرتين صباحاً ومساءً، خاصة الطريق من ساحة القمح حتى الحرج، ثم إقتصر الرش على مرة واحدة وشمل طرقات أخرى مثل طريق النهر والباشورة والمصيطبة ورأس بيروت. وإتفق فخري بك رئيس البلديّة ومسيو نكسن رئيس شركة الماء على رش خمسة عشر ألف متر طولاً بعرض خمسة أمتار، بسعر خمس عشرة بارة للمتر المربع سنويًّا. وطُلب من الإسكندريّة عجلة للرش. ولما وصلت العجلة، عسر جرها لثقلها ، فتقرر صنع عربات على طرازها من الخشب، وإلتزم عبد الله محرم الرش المذكور، وأنيرت طرقات البلدة بالغاز سنة 1888م.