مشاهد باريسية واستعارات أميركية

في نسيج بيروت العمراني الحديث


قبل عقد من الزمن كان من المستحيل التفكير في هذه المدينة بدون الشعور بالألم. ففي يوم من الايام دمرت في الحرب الاهلية التي استمرت 15 سنة بيروت التي تشتهر بقدمها. وكانت الكثير من شوارعها محطمة، وتحول الشاطئ المتعرج الى مقلب ضخم للقمامة. ولكن اذا كان سكان هذه المدينة لم يشفوا بعد من اثار الدمار النفسي الناجم عن الحرب، فإن المعدل السريع لإعادة تعميرها قد حولها الى واحدة من اكثر التجارب الحضرية روعة. فقد تم إعادة فتح المنطقة التجارية التي تضم آثارا تعود للعهد العثماني والانتداب الفرنسي، بعد عقد من الزمن من اعمال الترميم. وقد شارك في تلك العملية العديد من الشخصيات المعمارية الشهيرة مثل مكتب ستيفن هول في نيويورك ومكتب جون نوفل من باريس، الذين حصلا على تكليفات مهمة هنا. حتى منطقة مقلب القمامة تمت تسويتها وستشكل منطقة مساحتها 150 فدانا مخصصة للتنمية بما في ذلك مرسى ومنطقة سكنية فاخرة وحديقة تطل على البحر.

وتمتد اهمية هذه الخطوات الى ابعد من قضية التخطيط الحضري. فهي اسس رؤية يصعب مشاهدتها اليوم: مدينة ذات قيم متعارضة تحافظ على إحساس بالشمولية الثقافية. وتتعهد هذه المشروعات لإعادة عظمة بيروت الى ما كانت عليه. كما انها تذكرنا بأن النزاعات يمكن ان تكون وسيلة إبداع.

ووسط بيروت الجديد عبارة عن منطقة مساحتها 100 فدان في وسطها التاريخي، وقد كان جزء من الخط الاخضر ـ المنطقة التي تفصل بيروت الشرقية عن الغربية ـ خلال الحرب الاهلية التي بدأت في عام 1975 وانتهت عام 1990، حيث كانت تنتشر في الشوارع العربات المهجورة وألواح المعادن بينما كانت المباني تعاني من آثار الطلقات النارية وقنابل المدفعية. وكانت ايضا منطقة الموت: اكثر من مائة الف شخص قتلوا في بيروت خلال الحرب. واليوم فإن العديد من المباني القديمة تم تجديدها. فبرج الساعة المصنوع من الحجر الجيري يقع وسط الميدان الرئيسي للمنطقة الذي اطلق عليه اسم ساحة النجمة ومنه تنطلق شوارع مخصصة للمشاة. ويتجه محور اساسي شمالا نحو شارع اللنبي، الذي يمتد نحو موقع التنمية الجديد على الساحل.

وقد بدأت التنمية في التسعينات، شركة سوليدير وهي شراكة بين القطاع الخاص والعام ويرأسها رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، وهو مليلردير معروف في مجال الاعمال والانشاءات. ومن ابرز ما تم انجازه في وسط بيروت هو إعادة بناء دقيقة لحي ترجع جذوره الى الاحياء القديمة التي التي شكلت العاصمة الفرنسية باريس خلال منتصف وأواخر القرن التاسع عشر. وفي الوقت الذي كانت فيه شوارع وميادين باريس مصممة للتعبير عن مكانتها كمركز للسلطة الامبريالية، فإن شوارع بيروت اكثر حميمية. وتثير عمارتها الاسترخاء الذي تتسم به المدن الساحلية. وبدلا من شوارع وميادين باريس، يجد الشخص نفسه في شوارع رئيسية ضيقة.

وبينما تتميز أنصاف الاقواس المنتشرة في شارع ريفولي في العاصمة الفرنسية بنظام مثالي، فإن الاقواس في بيروت اكثر امتدادا، في إشارة رقيقة الى العمارة العربية التقليدية.
غير ان النموذج الحقيقي ليس العمارة الباريسية ولكن الاميركية التي تتمثل في مركز تسوق فانول هول ماركت في بوستون وميدان غيراردلي الذي اعيد تجديده في سان فرانسيسكو.
ومثل هذه المشاريع المبكرة، فإن مشروع سوليدير يتعلق اساسا بالمستهلك. فتنتشر على الارصفة البوتيكات المتناسقة المخصصة اساسا للسائح الميسور. بينما المكاتب الواقعة في الطابقين الثاني والثالث ـ الخالية في الوقت الراهن ـ فتهدف الى جذب الشركات العالمية.


الاحساس بالماضي الصحي المعافى واضح تماما في التغييرات المعمارية. فغالبية المباني التي خضعت لعمليات الصيانة والتجديد مشيدة من الكلس المحلي الناعم. وعادة ما تغطى هذه السطوح بالجص الملون بغرض حماية الحجارة من التعرية مع ترك واجهة المبنى مكشوفة، اما السطوح فهي ذات طبيعة منحوتة وخشنة بغرض ايجاد شعور اكثر واقعية بالاصالة. أثار هذا النموذج القائم على اساس الاحتفاظ بالماضي بعض المشاكل في الدوائر الثقافية والاكاديمية ببيروت. فقد قال بيرنارد خوري، 35 سنة، وهو مهندس معماري لبناني اصبح من ابزر المنتقدين لشركة سوليدير، ان ما حدث يعتبر جزءا من اجندة محسوبة ومدروسة بعناية. ويعتقد خوري ان ما يحدث لا يعدو ان يكون محاولة لتحويل بيروت الى سويسرا الشرق الاوسط، إلا ان القضايا الاجتماعية الحقيقية لا تزال مدفونة، على حد قول خوري. لا يزال تطوير سوليدير يمثل مشهدا واحدا لمدينة بيروت. فعلى بعد اقل من ميل واحد لا تزال منطقة الكورنيش التي كانت من اجمل مناطق العاصمة في السابق تفتقر حاليا الى الجمال والحيوية. وشهدت هذه المنطقة تشييد عدد من الفنادق الجميلة والشقق خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي، إلا ان الكثير من هذه الفنادق بات مهجورا الآن، ولكن على الرغم من انها تبدو مهجورة إلا ان شكلها المنسق لا يزال جزءا من جمال هذه المدينة. تطل الفنادق على منتزه للمشاة يعتبر من اجمل المنتزهات والساحات العامة في منطقة الشرق الاوسط، اذ يلتقي عدد كبير من سكان المدينة في هذا المكان ابتداء من الشابات اللائي يرتدين الحديث في عالم الموضة الى النساء اللائي يرتدين البرقع وحتى الرجال الذين يدخنون النرجيلة. وبالقرب من هذا الموقع باتجاه البحر ينقسم الشاطئ الى سلسلة من المساحات والمناطق العامة والخاصة. فالأنفاق الارضية تربط بين الكثير من هذه الفنادق القديمة والاندية الخاصة حيث تنتشر المقاعد الوثيرة المخصصة للاسترخاء في صفوف مرصوصة بعناية بمحاذاة الرصيف الاسمنتي. هذا جانب آخر يتضح في التناقض المعماري لبيروت ففندق «فينيسيا»، الذي صممه المعماري الاميركي ادوارد دوريل نهاية عقد الخمسينات، يمثل نموذجا للتصميمات الكلاسيكية لحداثة ما بعد فترة الحرب. وقد اعيد تصميم خطوطه منذ ذلك الوقت لتتحول الى نموذج للنمط الكلاسيكي المقلد. وعلى الجانب الآخر من الشارع يوجد مركز «لا ميسو دي لا مارتيزان» للتسوق، الذي تظهر أمامه اعمدة اشبه بأشجار النخيل الاسمنتية، اذ تمت إعادة تصميم المركز في شكل زخرف معماري رائع على نحو لم يعد ممكنا معه معرفة اجزاؤه الداخلية بعد التصميم الجديد. والى جوار المركز تظهر سقالات الصيانة والتجديد على مبنى فندق «سانت جورج» الذي جرى تشييده في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي.

 

هذه المشاهد المتناقضة للمدينة والجدل الساخن الذي اثارته ساعد في رفع مستوى الوعي المعماري، مما يعتبر انه يعزز الآمال في مستقبل مزدهر لبيروت. حاولت شركة سوليدير قبل حوالي عامين تقريبا الى البحث عن مقدرات ومواهب عالمية في مجال المعمار بغرض المشاركة في موجة التنمية الجديدة، اذ عكس هذا الجهد استراتيجية رائجة بين شركات العمارة والتشييد في مختلف انحاء العالم وهي ان الهيبة التي يضفيها مثل هؤلاء المعماريين على احد المشاريع من الممكن ان تساعد على تمهيد الطريق أمام تنمية واسعة النطاق خصوصا في البيئات السياسية الساخنة. رغم ذلك، حالف الحظ بيروت في اختياراتها. فغالبية الاجانب الذين ادوا مختلف المهام الرئيسة ذات الصلة بالإنشاء والتعمير خلال السنوات القليلة الماضية قد سعوا الى الوصول الى ما بعد الصور النمطية المعتادة عن الشرق الاوسط، اذ ابدى بعضهم تفهما عميقا للسياق المحلي على الصعيدين الاجتماعي والنفسي. ربما يكون مشروع «نوفيل» هو الاكثر اثارة للاهتمام، اذ ان المهندس المعماري المسؤول بنى سمعته على اساس مشاريع عالية التقنية مثل معهد العالم العربي في باريس. فقد جمع هذا الصرح المعماري، الذي استكمل العمل فيه عام 1987، بين التعقيد الهندسي للفن الاسلامي مع عقلانية التنوير الفرنسي. اما في بيروت، فإن تصميم «نوفيل» لمجمع تسويقي وسكني جديد، فيعتبر محاولة للوصول الى قراءة اكثر عمقا في التقاليد الاجتماعية المحلية. ومن المتوقع ان يستكمل العمل في وقت لاحق من هذا العام في المجمع الذي يضم برجا سكنيا وتجاريا من 36 طابقا، وعلى طول قاعدة البرج سيكون هناك مجمع سكني وتجاري آخر يشقه طريق ضيق للمشاة. يشكل البرج كتلة اسمنتية صلبة بها سلسلة فضاءات عميقة بمختلف الاحجام والاشكال تضم مساطب وحدائق وبرك خارجية. فيما تضمن الطوابق العليا من البرج المزيد من الاحواض المسنودة بالألواح والبلاط على واجهة المبنى. وتعكس فكرة التصميم الطبيعة الفردية لكل مساحة وكان الشكل العام عبارة عن منازل خاصة مرصوصة فوق بعضها بعضا.

عودة لصفحة بنك المعلومات