الشيخ زكريا أحمد          

كان الشيخ زكريا أحمد أشد كبار الموسيقيين العرب تعصبا لعروبة موسيقاه، وأوضحهم في انتمائه المصري الأصيل. والده أحمد صقر وكان من أنصار الحامولي. تزوج من فتاة من أسرة تركية، أنجبت له بنات فيما الذكور منها كانوا يموتون في أسبوعهم الأول، إلى أن رزقوا بزكريا بعد واحد وعشرين طفلا ماتوا.


أرسل زكريا إلى كتاب الشيخ نكلة قرب منزله، كان والده شديد الوله به يوخشى فقدانه، وكان الولد نبيها سريع الحفظ، لكنه كان شقيا أيضا. وقد طرد من الكتاب حين عض الشيخ منصور الذي كان ينفض له فروته أي يضربه. فانتقل إلى الأزهر حيث أمضى سبع سنوات لم يبدل في أثنائها شيئا من طباعه. فكان يقلب دبابيس عمامته حتى إذا ضربه الشيخ على العمامة دميت كفه. وفي سن الثالثة عشرة طرد من الأزهر لأنه ضرب الشيخ، فأخذ يميل إلى حضور الموالد والأذكار في السرادقات لسماع كبار الشيوخ والمقرئين والمطربين. وكان يشتري كتب الغناء ويلغفها بغلافات الكتب الجادة.


أدخله والده بعد الأزهر مدرسة ماهر باشا في حي القلعة، فطرد في أول يوم لأنه لم يكف عن الغناء، لا في الفصل ولا في الفسحة، فأخذت حياة الشيخ زكريا في مراهقته تتحول إلى التشرد، فخلع الجبة والقفطان، واختصم خصاما شديدا مع والده إلى أن طلب من الشيخ درويش الحريري في تعليمه وتخفيظه القرآن الكريم، وظل في صحبة الشيخ درويش عشر سنوات، فحثه على الغناء في بطانة الشيخ سيد محمود خادم السيرة النبوية، لكنه لم يلزمها غير أشهر وعاد إلى فرقته الحريري الذي أجازه في حضور الحفلات وإحياء المآتم والأذكار والاعتماد على النفس. فيما بعد التحق بفرقة الشيخ إسماعيل سكر للقراءة والإنشاد، فعظم صيته في القاهرة والأقاليم حتى استدعاه السلطان محمد رشاد إلى الأستانة لإحياء إحدى الحفلات العظيمة. 


وبدأ زكريا يطفو في الأرياف يسمع الناس ويستمع إليهم، وأخذ يكتنز تراث الفلاحين، ويضم حصاده إلى حصيلة عشر المنتديات في القاهرة، وقد أخذ مع الوقت يعرض عن الغناء الديني ويقبل على الطرب والموسيقى، حتى يئس الشيخ درويش الحريري في تحفيظه القرآن، فحفظه آيات معلومة تناسب احتفالات بعينها.


لم يخض زكريا غمار المسرح الغنائي قبل موت سيد درويش إلى مرة فقط، كان ذاك سنة 1916، حين اجتمع طلاب يهوون التمثيل منهم حسين رياض وحسن فايق، فشكلوا فرقة ودعوا زكريا إلى تلحين روايتهم: فقراء نيويورك، فلحنها مجانا ثم انقطع عن هذا الصنف من التلحين حتى عاد إليه سنة 1924.


وقد أمكن إحصاء ثلاث وخمسين مسرحية غنائية لحنها زكريا، وتراوح عدد ألحانه في كل منها، من ثمانية ألحان إلى اثني عشر لحان، إلا "دولة الحظ" فكان له فيها سبعة ألحان. وبلغ عدد أغنياته المسرحية خمسمائة وثمانين لحنا حتى حظي كثير منها بشهرة واسعة.


إن مسرحيات الشيخ زكريا كانت امتدادا لتراث سيد درويش، فتضمنت مسرحياته نقدا عنيفا وحكما، تصوير للأوضاع الإجتماعية ونقد هادئ وعنيف في أحيان، واستخدم أسلوب تمثيل الممالك الخيالية لنقد السلطة. وإلا جانب الصور الإجتماعية التي حفلت بها المسرحيات، احتشدت أيضا بالتصوير الوجداني للشخصيات والمشاعر. وزكريا كان متفوقا على أقرانه في هذا الفن المسرحي، حيث كان غزير الألحان سريعها إذا شاء أو اضطر.

أما ظهور السينما في المسرح الغنائي، فكان له أثر حاسم، ولم يكن زكريا استثناء في انتقاله من العمل المسرحي الغنائي إلى العمل للسينما الغنائية. وقد اشترك في تلحين أغنيات سبعة وثلاثين فيلما، تضمنت إحدى وتسعين أغنية من ألحانه، اشتهر معظمها اشتهارا عظيما. ولا بد في مجال تلحين الشيخ زكريا للأفلام من ذكر وراثته في تصوير المشاهد الجماعية عن الشيخ سيد درويش وهو فن ورثه عنه سيد ماوي في "اللية الكبيرة" وغيرها. وتبدو قدرة الشيخ زكريا على هذا التصوير في أوجها في أحد مشاهد فيلم "ليلى بنت الفقراء"، مشهد مولد السيدة زينب، حيث ينشد زكريا وهو معمم، وحوله بطانته توشيحا جميلا.


طور زكريا أحمد في الغناء العربي الطقطوقة والدور. ولعل في هذا دلالة أخرى على أصالته الفطرية. فأعطي أربعة أزجال وطلب أن يلحنها طقاطيق لشركة بطرس بيضا واشترط على الشركة ألا يلحنها غيره. إلا أنه انصرف منذ موت سيد درويش إلى المسرح الغنائي، فيما كانت أم كلثوم تتدرج في مدارج الشهرة مع الشيخ أبو العلا والدكتور صبري النجريي ومحمد القصبجي، فبدأ على الفور تطوير الدور والطقطوقة في أغنيات خالدة لحنها. وثمة قول شائع أن أو طقطوقة طورها زكريا هي "جمالك ربنا يزيده" غير أن ثمة إجماعا على أن طقطوقة "إللي حبك يا هناه" هي أول ما غنت أم كلثوم من ألحان زكريا.


وأهم الطقاطيق التي لحنا زكريا لأم كلثوم:

q اللي حبك يا هناه

q  جمالك ربنا يزيده

q   قالوا لي إيمتي قلبك

q  الليل يطول ويكيدني

q  ليه عزيز دمعي تذله

q  أكون سعيد

q   العزول فايق ورايق

q  مالك يا قلبي حزين

q  ناسية ودادي وجافياني


ولا شك في ان تطوير زكريا لشكل الطقطوقة أرشد محمد عبد الوهاب والقصبجي والسنباطي إلى التوسع في ابتكار أشكال للطقطوقة، حررتهم في معالجة هذا النوع في أغنيات الأفلام التمثيلية، ثم في الأغنيات المسرحية، والأغنيات الطويلة.


أما موشحاته وتواشيحه التي لم تغنها أم كلثوم تكاد لا تحصى منها:

q  يا جريح الغرام

q  يا هلال السما

q  يا رشيق القوام

q  يا من يرجى

q  يا وردة وسط الرياض

q  يا أيها الحادي اسقني

q  زارني والليل حالك

q  يا نسيم الصبا

وغيرها من الموشحات.

ويصطلح إجمالا على أن الشيخ زكريا كان أغزر الموسيقيين العرب تلحينا في العصر الحديث، إذ قدر عدد الأغنيات التي لحنها بنحو 1070 أغنية، وقد بدأ يلحن سنة 1916 على ما سلف. وأول من غنى له صالح عبد الحي وعبد اللطيف البنا ومنيرة المهدية وفتحية أحمد وغيرهم من كبار عالم الغناء في ذلك الزمن. 


وفي أواخر سنة 1953 أصيب الشيخ زكريا بالذبحة الصدرية الأولى. وكانت قضيته مع الإذاعة وأم كلثوم قد وصلت إلى مرتبة خطيرة من العنف والشدة. وكان مرضه بالتمام في اليوم الثالث من كانون الأول/ ديسمبر 1953. كان الشيخ حساسا للغاية، لكن قليلا من الإطراء الصادق يغنيه عن ثروة. 

إن زكريا أحمد يمتاز دون غيره من الموسيقيين العرب الكبار بمزاجه الخاص ذي المقومات المركبة. وأول ما يخطر ببال مصنفيه، أنه محافظ يعاند التطوير والتبديل. وهذا في الواقع تصنف غير دقيق. فالشيخ زكريا طور شكلين من أهم أشكال الغناء العربي، وأسهم في تطوير أشكال أخرى، لكن تطويره لم يمس آلات الموسيقى العربية أو المقامات العربية أو الإيقاعات. فأسس تطويره على ملامح عربية أصيلة، فحفظ المضمون وبدل في الأشكال، منطلقا من الأشكال الأصلية، ولذا قد يهم الناس في جعله رجعيا في الفن، وهو خلاف ذلك.


وقد قيل عنه أنه جاهل لأنه لم يكن عالما بالأساليب الغربية في الموسيقى. لكن الشيخ زكريا كان مثقفا كبيرا في ثقافته العربية. وكان لا يفوت لحنا إلا حفظه، حتى سماه كامل الخلعي: "الملقاط"، وفي الآداب كان يؤثر كتابي أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة"، والجاحظ "البخلاء". بل كان شاعرا مفطورا، طغى حسه الموسيقي على فطرته الشعرية، فطمسها. 

وظل زكريا في الواقع يؤلف حتى أخر عمره، وإن لم ينشر. وكان يعدل الأزجال التي لحنها، ومنها أنه اقترح إبدال "أنا في انتظارك" من "أنا في استنظارك" فوافقه بيرم. ولم يكن حسه الشعري ضمانا لانخراطه في مجموعة بيرم التونسي وبديع خيري قلبا وقالبا فقط في هواهم السياسي والإجتماعي، بل كان هذا الحس الشعري يثرى كذلك حسه لإيقاع الكلمة والنغمة حين يغني.


وغناء الشيخ زكريا أحمد غناء مهم، على رغم جشة صوته، بل كان غناؤه مدرسة لكثير من المطربين، إذ كان يمتاز بعناصر منها:

q النبر المؤخر، وهذا هو أوضح سمة في تقطيعه الغناء كما في ترداده لكلمة "جميل"، في جملة: "الورد جميل جميل جميل جميل الورد"، وينم نبره المؤخر الإيقاعي عن إحساس كامل وسيطرة مطلقة على إيقاع الكلم وتفعيلات الموازين. وكانت هذا السيطرة تبيح له التصرف بتقطيع الجمل كيفما يشاء.

q العرب القديمة في الغناء والخنفة الموروثة عن أسلوب الإنشاد في القرن الماضي. وإذا تسنى سماع درويش الحريري في غنائه موشحاته، او داود حسني في أدوراه، فلن تظل ثمة غوامض في جذور زكريا وأصوله.

q عرض صوته، وكان يستخدم الطبقات المنخفضة في تلوين غنائه على الدرجات المختلفة. من ذلك غناؤه: "ليلي ليلي يا ليل" في اللازمة الموسيقية التي تسبق مقطع: ويقصروك يا ليل، من أغنية: "أهل الهوى يا ليل".

q الدقة في التلوين المقامي، إذ كان إحساسه للسكك المقامية في غنائه واضحا وضوحا مطلقا، فلا يترك ندحة للالتباس، ويؤدي بذلك تغييره المقام أثرا انفعاليا مضاعفا.

q التصرف العبقري باللحن، وذلك الفضل فيه لخياله الموسيقي الخصب، ذي المؤونة الثرية بالموشحات وألوان التدويد والإنشاد.



كان زكريا غزير الألحان، لم يكن متفوقا بالكثرة بل بالجودة أيضا، لأنه كان يؤثر إنضاج العمل الوسيقي، إنضاجا صحيحا، ولو اقتضى طويلا، ولم يكن الشيخ زكريا ممن أدركتهم لوثة عقدة الغرب. ولم يكن من أولئك الذين يؤمنون اليوم في مصر وغير مصر، أن العلوم الموسيقية هي العلوم الموسيقية الغربية وحسب. كان يعرف أن جهل الموسيقى موسيقاه العربية وأصولها وجذورها، هو جهل ولو امتلك علوم الغرب الموسيقية كلها.

إن العنصر الإنفعالي في موسيقى الشيخ زكريا هو أعظم ما تتصف به ألحانه من حيث المضمون. وهو يتبع في المعتاد لتصعيد الانفعال في ألحانه أسلوب التتالي، وهو أسلوب ترداد فقرة موسيقية على درجة أعلى أو أخفض، مثنى وثلاث، حتى بلوغ ذروة الانفعال.