محمد عبد الوهاب   

ولد الفنان الكبير محمد عبد الوهاب في القاهرة عام 1896 تقريباً وكان والده يتعاطى مهنة تعليم الأولاد في مسجد الشعراني بحي الشعرية في القاهرة. نشأ عبد الوهاب منشأ بسيطا لم يعرف للحياة قدرها ولا لنفسه مقدارها فكان يجوب الأزقة مرتديا جلبابه البسيط مع أبناء حيه يسرحون ويمرحون ويغنون وينشدون، وكانت فطرة عبد الوهاب وحبه للغناء طبيعية وموهبته الفنية فطرية ولذا كان يقتل اكثر أوقاته في الغناء مقلقا راحة الجيران بصوته الذي كان معجبا به هو ذاته. 

على أن الحظ إذ قدر للإنسان أن يناله فقد يناله عن طرق غريبة عجيبة قد لا تخطر على بال. إن محمد عبد الوهاب قد تسلق سلم المجد عن طريق تجواله في الشوارع وارتياده المسارح العامة إذ ساقت الأقدار لهذا الفنان ورفاقه في الحي الذهاب إلى تياترو دار السلام بحي سيدنا الحسين لمشاهدة تمثيلية لفرقة فوزي الجزائرلي فدخلوا الصالة بعد أن دفع كل منهم عشرة مليمات ثمنا للتذكرة ولما انتهى الفصل الأول من الرواية وأسدل الستار على الممثلين قام هؤلاء الأولاد رافعين أصواتهم بالغناء ولكن هذا الغناء كان على سبيل التسلية والمرح فصفق لهم الجمهور سخرية واستهزاء، غير أن رئيس الفرقة التمثيلية فوزي الجزائرلي لم يسخر من هؤلاء الفتيان بل تقدم إليهم ودعاهم للغناء على المسرح مما أثار دهشة المتفرجين والمستمعين ولكن الطفل محمد عبد الوهاب اهتزت جوانبه أمام هذه المفاجأة والأمر الواقع وتعذر عليه الانسحاب فصعد عبد الوهاب على المسرح وراح يغني مع رفاقه فطرب الجمهور من فرقة الأطفال وصفق لها طويلا واستعاد أغانيها مرات ومرات فما كان من فوزي الجزائرلي إلا أن اكرم فرقة الأطفال بشلن كامل لكل واحد منهم وتكررت الزيارة في أيام أخرى إلى هذا المسرح وتكررت الشلنات حتى أصبحت هذه الفرقة من مستلزمات مسرح الجزائرلي ومن ضرورات العرض الساهر وجزءا من الأساس في كيان فرقة الجزائرلي.

وفي عام 1917 بعد وفاة الشيخ سلامة حجازي أتلف نجله عبد القادر حجازي فرقة تمثيلية لتقديم الروايات الأدبية وكان عبد القادر حجازي يقوم بالدور الأول في التمثيل والغناء، ولما كان صوته لا يؤدي المطلوب فكان يحرك شفتيه ومحمد عبد الوهاب يغني اللحن من وراء ستار ثم عمل محمد عبد الوهاب في فرقة عبد الرحمن رشدي مغنيا بين فصول الروايات إلى جانب المطربة فاطمة قدري قتلا للوقت ولم يكن له آنذاك معجبون يقدرون فنه، وظل على هذا الحال يتنقل من فرقة إلى أخرى طلبا للرزق حتى عاد أخيرا إلى فرقة عبد الرحمن رشدي مرة ثانية وكان بين أفراد فرقته عبد الخالق صابر الذي شغل فيما بعد منصب وكيل وزارة الدفاع. وكان صابر يجيد إلقاء الأغاني البلدية والمواويل فشجع عبد الوهاب على الغناء والإستزادة من معرفة هذا الفن وكشف أسراره .

كان المعهد الموسيقي الملكي في ذاك الحين قد افتتح حديثا فانتسب إليه عبد الوهاب ولكنه لم يمكث فيه طويلا بل انتقل إلى معهد موسيقي خاص وكان يزامله فيه المرحوم مصطفى رضا وصفر علي اللذان احتلا فيما بعد إدارة المعهد الموسيقي الإدارية والفنية فاستفاد عبد الوهاب بعض ثقافته الموسيقية من هذه الدراسات ثم أكمل دراساته الموسيقية على يد المرحوم الشيخ علي الدرويش الحلبي الذي تعاقدت معه حكومة القاهرة على التدريس في المعهد الموسيقي العالي. 

أما ألحان محمد عبد الوهاب فكان لها أربعة أدوار ومدارس واعتبره الرأي العام المجدد الأول للغناء العربي، فالدور الأول ظهرت فيه أغاني يا جارة الوادي وكلنا نحب القمر وبالله يا ليل تجينا وغيرها فكانت هذه الأغاني من نوع خاص يسميه الأدباء بالسهل الممتنع، فشعرت الكافة والخاصة بأن دماً جديداً قد داخل الأغنية العربية وأصبحت أغانيه على كل لسان تتردد وفي كل سمع تتصدر وداخل كل قلب تنبض، فتزعمت هذه المدرسة مركز الطليعة في الميدان الموسيقي الغنائي وأصبح لها أنصار ومريدون وتهافت التجار من أصحاب شركات الاسطوانات على تسجيل أغانيه فانتشرت تتغنى على كل مسرح وأصبحت أغاني محمد عبد الوهاب هي المادة الرئيسية في الثقافة الفنية لكل مطرب ومنشد وهاو للطرب .

لم تقتصر مدرسة محمد عبد الوهاب على إبداع أغاني الطرب الكلاسيكية بل تعدتها إلى المرحلة الثانية من مدرسته الإبداعية وكان دور الأغاني الوصفية، فظهرت أفلامه السينمائية وكان لها دوي هائل في ميدان الغناء العربي. وفي اللون الوصفي الجديد الذي أتى به هذا الفنان الموهوب والوصف هو إدراك سر الكلمة وتلبيسها اللحن المناسب لها، واعتمد محمد عبد الوهاب في هذا العمل على ذكائه أكثر من اعتماده ومعرفته ولذا كان وصفه مجازياً أكثر من كونه حقيقياً. فمثلاً من ألحانه المجازية أغنية يرثي بها حبيبته وهو بين قبور الموتى بقوله في فلمه يحيا الحب قوله يا من سعيت إليها يقودني نار قلبي يا من جنيت عليها هذه جناية حبي أن لحن هذا المقطع ليس بالحزين كما هو مفروض من النص الشعري بل انه لحن مفرح راقص، وهكذا كانت بعض ألحانه في بقية أفلامه ممنوع الحب رصاصة في القلب ثم في ألحانه التي كانت لغير أفلامه.

وفي الدور الثالث لهذه المدرسة الموسيقية أخذ عبد الوهاب يلحن القصائد الطويلة بأسلوب جديد يختلف عن الدورين الأولين فظهرت أغاني الجندول والكرنك وكانت حدثا جديدا هائلا في ميدان الغناء العربي ولكن هذه الأغاني على روعتها وعظمتها لم تنس الناس أغاني الدور الأول، تلك الأغاني التي رفعت عبد الوهاب إلى زعامة الميدان الموسيقي والغنائي في العالم العربي، إنها أغان كانت تخرج من القلب وتدخل كل قلب لم يداخلها التصنيع في تركيبها ولا التقليد في هيكلها. لقد كانت استمرارا لمدرسة الشيخ سيد درويش ولذا كانت قريبة من كل مزاج ومتغلغلة في كل نفس.

إن إنتاج الدور الرابع قد هبط عن مستوى الألحان المألوفة في هذه الحقبة الزمنية لا فإنتاج محمد عبد الوهاب هو دوما فوق المستوى المألوف ولكن الحديث عن ميدان وصاحب مدرسة وصل في الماضي بإنتاجه إلى ذروة الجادة والجمال إذا قورن بإنتاجه بين الدور الأول والدور الرابع فلا شك أن الفارق كبير بينهما فها هي قصيدة يا جارة الوادي يعاد تسجيلها على اسطوانات تجارية للمطربة فيروز بعد ست وثلاثين عاما وتجد هذه الأغنية إقبالا لا مثيل له ولا أظن أن أغنية أراعيك قيراط تراعيني قيراطين تجد مثل هذا الإقبال إذا أعيد طبعها بعد هذه الفترة الزمنية الطويلة بل أن هذه الأغنية قد ماتت وهي لا تزال في المهد الأمر الذي يوضح الحقيقة الواقعة وليس معنى ذلك أن الأستاذ محمد عبد الوهاب قد تناقصت مقدرته التلحينية فألحانه للسيدة أم كلثوم في أنت عمري وأمل حياتي تثبت أن عبد الوهاب لا يزال في ذروة الميدان الموسيقي، ولكن عبد الوهاب كما يبدو أبى أن يعترف بواقع سنه فصاغ ألحانه في دورها الرابع بما يتناسب مع ما وصل إليه صوته فكانت كما سمعها الناس في وضعها الراهن.

لحن عبد الوهاب الكثير من الأغاني الخفيفة في بدء حياته الفنية ولكنه عندما تعرف على المرحوم أحمد شوقي أمير الشعراء فتحت له الدنيا أبوابا جديدة كانت موصدة أمامه فيما قبل فظهر لعبد الوهاب أحلى القصائد وأطرب الأغاني وأمتع الألحان. والخلاصة أن محمد عبد الوهاب هو رائد الموسيقى في هذا الجيل وكانت ألحانه في أدوارها الأربعة ممتعة مطربة لسائر الأفراد على اختلاف أمزجتهم وطبائعهم وثقافاتهم ويعتبر من أساتذة الدور الرابع للمدرسة الموسيقية الحديثة بحق وجدارة .