بقيت بيروت خلال قرون طويلة خالية من أي مؤسسة علميّة تستحق الإهتمام إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى ذلك الزمن، كان الراغبون في طلب العلم من البيروتيين قانعين (بفك الحرف) في الكتاتيب الصغيرة داخل الدكاكين التجاريّة التي كان يديرها أشباه المتعلمين، أو بالأصح (أشباه الأميين) وأكثرهم من المكفوفين، ومن كان ذا سعة من أولئك الطلاب، فإنهم كانوا يسافرون إلى الخارج، أو يلوذون بأروقة المعابد الدينيّة، كالمساجد والزوايا والأديرة والكنائس، حيث يلتمسون على أيدي الشيوخ والكهنة ما يروي ظمأهم إلى المزيد من الثقافة والمعرفة في حدود ما كان متداولاً من العلوم في ذلك الحين بما يؤهلهم لأن يكونوا في المستقبل أئمة في المساجد أو رهباناً في الكنائس دون أن يتطلّعوا إلى ما هو أبعد من ذلك.

وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت بعض المؤسسات المدرسيّة تظهر في هذه المدينة. بيد أن هذه المؤسسات، لم يكن لأهل البلد يد فيها من قريب أو بعيد، وإنما أنشأتها الهيئات الأجنبيّة التي قدمت من الأقطار الأميركيّة والأوروبيّة.

وجدير بالذكر أن الذي دفع بهؤلاء الأجانب إلى إنشاء المدارس في بيروت خلال تلك الفترة، وهو رغبتهم في الدعوة إلى مذاهبهم الدينيّة بعد أن هيأت لهم الظروف السياسيّة والمتاعب الماليّة التي مرت بالإمبراطوريّّة العُثمانيّة، فرصة التسرب إلى الشرق العربي على أثر الوهن الذي أصاب هذه الإمبراطوريّة بسبب حروبها مع روسيا، ومن بعدها حملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798م، ثم الحركة الإنفصاليّة التي قام بها إبراهيم باشا إبن عزيز مصر محمد علي باشا بين سنتي 1831 و1840م.

ولقد كان الأميركان أسرع من غيرهم في إنتهاز الفرصة وإستغلال الوضع السيّئ في الدولة العُثمانيّة وبادروا إلى التحرك في الإتجاه الملائم لمصالحهم الثقافيّة وغير الثقافيّة معتمدين على الجمعيات الدينيّة في أميركا التي كانت متحمسة لنشر المذهب الإنجيلي، لا سيما في أوساط النصارى من أبناء الشرق العربي الذين كانوا موزعين بين المذهبين : الكاثوليكي الغربي والأرثوذكسي الشرقي.

في سنة 1825م إفتتح القس إسحاق بيرد أول مدرسة تبشيريّة في بيروت. وكانت نهاريّة خارجيّة وقد ضمّت يومئذ 81 صبياً وفتاتين وهي أول مدرسة أجنبيّة عرفتها هذه المدينة في تاريخها الحديث. وكان موقعها في نفس المكان الذي بنيت فيه بعد ذلك المطبعة الأميركيّة التي كانت إلى جانب الكنيسة الإنجيليّة، وقد أطلقت بلدية بيروت إسم الكنيسة على الطريق المحاذي لها وأصبح يُعرف باسم (شارع الكنيسة الإنجيليّة). وفي سنة 1830م أنشأت زوجة إسحاق بيرد مدرسة ثانية بالقرب من المدرسة التي اسسها زوجها، كما قامت زوجة وليم غودل بتأسيس مدرسة أخرى للبنات أيضاً في جبل لبنان. ولم تكن المدرسة التي أسستها السيدة بيرد ذات بناء مستقل، بل كانت هذه السيدة تستقبل في بيتها بضع بنات وتقوم بتدريسهن.

وبعد بضعة أيام حذت السيدة إليزا طومسن، زوجة القس وليم طومسن حذو السيدة بيرد وفتحت بيتها لإستقبال ثماني بنات كانت تدرسهن فيه. وبقي تعليم البنات على هذه الحال إلى عام 1834م. ففي هذا العام قدمت إلى بيروت السيدة سارة سمث زوجة القس الدكتور عالي (إيلي) سمث أحد مترجمي التوراة (العهد القديم) إلى اللغة العربيّة. ولقد تولت السيدة المذكورة أمر تنظيم تدريس البنات في بناء مستقل وأنجزت هذا البناء سنة 1835م بالمال الذي تبرعت به سيدة إنكليزيّة إسمها (السيدة طود) فاعتبر عام 1835م عام التأسيس، وعُرفت المدرسة يومئذ باسم (مدرسة بيروت للإناث) وكان عدد تلميذاتها 40 بنتاً.

هذه المدرسة كانت أول مدرسة لتعليم البنات في بيروت وفي سائر الولايات العُثمانيّة. وأول مدرسة تعطي شهادة (الهاي سكول) في الشرق العربي، وهي البداية الأولى لما أصبح يُسمى في أيامنا جونيور كوليدج (Junior College) أو (كلية بيروت الجامعيّة) وفي عام 1959م إنتقلت المدرسة من إشراف الإرساليّة الأميركيّة إلى إشراف السينودس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان الذي بدّل إسمها إلى (مدرسة بيروت الإنجيليّة للبنات) وفي إحدى غرف الطابق الثاني من هذه المدرسة كان يجتمع المرسلان الأميركان عالي سمث وكارنيلوس فاندايْك ومعهما الشيخ ناصيف اليازجي (اللبناني) والشيخ يُوسُف الأسير (الصيداوي) والمعلم بطرس البستاني لترجمة التوراة إلى اللغة العربيّة، وهي الترجمة الأولى بهذه اللغة.

بقي أن نقول بأن بلدية بيروت هدمت مباني هذه المدرسة ومعها مبنى مكتبة الساعة التي حلت محلها فيما بعد، وذلك في سنة 1974م عندما بوشر بفتح جادة قؤاد شهاب الممتدة ما بين بيروت (المدينة) وبين مبنى المدينة الرياضيّة في منطقة بئر حسن. وعلى أثر هدم مباني المدرسة في بيروت، إنتقلت المدرسة بمعلميها وتلميذاتها إلى مبانيها الجديدة في منطقة الرابية، وذلك في أوائل شهر نشرين الأول سنة 1974م.