إلى أميرة إسمها بيروت 

للصحافي الكبير الأستاذ طلال سلمان من كتابه إلى أميرة إسمها بيروت

بيروت في 30/01/1984

سنبقى : ذلك هو القرار والأمر اليومي !

وستبقى بيروت : سنبقيها.

مهما ضغط علينا حصار الغزو والقهر والتجويع والتخويف سنبقى ونبقيها! ولو بقي منا واحد فسيكونها وستكونه.

سنحميها ونعصمها ونمنعها ونقاتل دونها، بينما هي مستكينة كبحر تموز البيروتي داخل تجويف القفص الصدري، تنبض الحياة نهراً دافقاً وتشع معرفة وعلماً ونوراً ينتف ليل الظلم والظالمين !

ستبقى بيروت عاصمتنا، عزتنا، غرتنا، فخرنا ومجد الصمود، بيتنا ومكتبتنا وغلاية القهوة الصباحيّة وكراسة مذكرات الفتى والصبية والصورة الأولى لطيف الحبيبة كما تختزنه الذاكرة بعد لقاء الرعشة الأولى.

بيروت النجمة تظل بيروت حتى لو قطعوا عنها الكهرباء

وبيروت النبع تظل بيروت حتى لو قطعوا عنها الماء

وبيروت المتأنسنة، كأعظم ما يكون الإنسان، أقوى من كل جلاّديها والفارضين عليها العتمة والخرس لتفريغها وتهديمها وتحويلها إلى مدينة ذهب مهجورة، أو قبر جماعي كبير !.

عمرها ما كانت بيروت بهذا النبل: أميرة متشحة بالسواد والصمت بقلب طفل الشهر السابع وعقل حكيم بعمر نوح وكبرياء فدائي وإيمان نبي وعطاء مزارع تبغ جنوبي.

عمرها ما كانت مدينتنا، كلنا، الفقراء والأغنياء، الملاك والمستأجرين، الصّناع والتجّار والزّراع والشعراء والموظفين والعمال، كما هي اليوم.

عمرها ما كانت هي القلب والرئة والرأس والذراع، المدينة والضاحية والريف، الشمال والجبل والجنوب والشرق، بقدر ما هي اليوم.

كانت مدينة بعضنا ومطمح البعض ومهجع البعض وسجن البعض وعلبة ليل البعض وملتهمة شقاء البعض: واليوم هي أمنا جميعاً، تطوي أجنحتها علينا كل مساء وتجلسنا لتسلينا بحكاية حتى تشغلنا وتنسينا شبح {الغول} المتروكة له الطرقات وأسطحة البيوت والنوافذ المعتمة ! .

سنبقى معاً، لقد توحدنا ذنباً فيها، صرنا بعض حجارتها، بعض حيطان عماراتها العالية، بعض سطوح القرميد المتبقية فيها، وصارت إسمنا والمهنة والعنوان ومرتبة الشرف ! .

سنبقى، هي ونحن.

سننتصر وننصرها على قطع الكهرباء، شح الماء، منع التجول، الرقابة على الصحف، والنتائج المفجعة للغزو الصهيوني، وبؤس الأوضاع الاقتصادية والمنتفعين بسياسة الإفقار والتجويع و{تقفيز} أسعار الدولار.

سنعمل كل يوم، وسنغني كل ليلة !

سنفجّر كل طاقات الحياة فينا: من يدرس سيدرس أكثر، من يشتغل سيشتغل ساعة إضافيّة أو ساعات لحل المشاكل والهموم اليوميّة المستجدة، ومن ينتج أدباً وفكراً وفناً سيعطي الإبداع، من ينتصر على إرادة الحياة ؟.

من أقوى من الحب، من الرغبة، من الشوق واللهفة وعشق الحياة ؟.

بالحب، وإرادة البقاء، والانتصار على مصاعب العيش، سنحول كل بناية إلى أسرة واحدة متكافلة، متضامنة، تتقاسم الرغيف الواحد إذا لزم الأمر، تتناوب تأمين المياه بالصفائح {المستوردة} من أحياء أخرى وتشترك في دفع ثمن المولد الكهربائي {بغض النظر عن نسب أرباح المتاجرين بالعتم، فيوم حسابهم آت ولو بعد حين}.

سنخترع ملعباً آمناً لأطفالنا داخل الشقة أو حتى داخل الملجأ وسيدرِّس الجار أبناء جاره، وستساعد الزوجة جارتها المريضة، ولسوف يعالج الطبيب أهل حارته بتعرفة مخفضة، ومجاناً حيث تدعو الحاجة.

سننظف كل شبر، ولن تبقى قمامة في الشوارع، وعند المنعطفات وسنصون المرافق العامة، وكأنها غرفة أطفالنا وحوائجهم الحميمة.

سنهتم بأمن الجميع، المواطن والأجنبي، وسنحمي بأهداب العين مراكز العلم والتعليم ودور العبادة وكل ثوابت وحدتنا وحقيقة انتمائنا إلى وطن واحد وأمة واحدة.

إن المؤامرة تستهدف اغتيال بيروت ونحن فيها، وعلينا أن نحمي بيروت لتبقى.

إنهم يريدون قتل بيروت. وفي قلب كلمة بيروت تقيم الضاحية... فلا بيروت بلا ضاحية ولا ضاحية بلا بيروت، ولا جنوب أو شمال أو بقاع من غير المركز وإستمرار دوره التاريخي.

إن مجموع الظروف التي فرضت على بيروت قسراً أن تعيش في اسارها أقسى من الحرب الفعليّة وأوجع: فقطع التيار الكهربائي ومنع التجول ليلاً في ظل وضع إقتصادي مأزم أصلاً يعني تجويع الناس عشرات ألوف الناس، مئات ألوف الناس.

إن منع التجول ليلاً يقطع أرزاق أعداد هائلة من اللبنانيين، فبيروت الليل ليست {كباريه}، بل هي ورشة هائلة يسقيها بعرقهم آلاف آلاف المنتجين: من مكاتب الشركات والمؤسسات إلى دور السينما والمطاعم والفنادق والمحلات التجاريّة إضافة إلى العاملين في النقل والمواصلات وسائر مجالات الخدمات... ألم تكن بيروت {مفخرتهم} لأنهم أرادوها وجعلوها عاصمة لبلد خدمات ؟ ! .

فإذا أضفت إلى منع التجول إنقطاع التيار الكهربائي لواجهت بطالة إجباريّة حقيقية لا يستطيع على تحمل أعبائها لا رب العمل ولا العامل.

هذا كله بغير أن نعرض إلى الحالة الأمنيّة وما يترتب عليها وعلى تفرعاتها: التوتير المقصود، القنص العبثي في الظاهر والمقصود في حقيقة الأمر لإجبار أعداد إضافيّة من البشر على خيار مرّ بين البقاء رهينة البطالة والجوع في منازلهم أو المخاطرة بتعريض النفس للخطر من أجل السعي إلى رغيف !.

على أننا سنبقى، بيروت ونحن.

سنبقى وسنجمل حياتنا مضيفين إلى روعتها الأصليّة روعة إصطناعها وإعادة صياغتها من جديد مطعّمة بنكهة الخطر وبمتعة إنتزاعها من أشداق الغول.

سنبقى: بيروت ونحن.

سنسهر كل ليلة. سنعمل. سنتعب أجمل التعب ثم نغني أعذب الغناء ثم نذوب حباً ورغبة، ونغب من نهر الحياة الدافق حتى الإرتواء.

سنبقى: بيروت ونحن، بحراً وشاطئاً هو الحضن أو الرحم، تحمينا ونحميها، تصوننا ونصونها، نعطيها وتعطينا الدفء والهوية واليقين.

ويا بيروت العظيمة: هل لك أن تمنحينا مزيداً من الشرف بان تكوني القائدة والرائدة والموحدة لشتات عشاق هذا الوطن الصغير وشهدائه ؟ ! .