الفصل الأول

تريفون يحاصر بيروت

في بداية العقد الرابع للقرن الثاني قبل الميلاد، كانت بيروت كغيرها من شقيقاتها الفينيقيّة تحت الاحتلال السلوقي «البيزنطي»، وفي سنة 143 قبل الميلاد إضطرب حبل الأمن في المملكة السلوقيّة عندما حاول ريودوتس الانقلاب على سيده أنطيوخوس السادس الصغير والانفراد دونه بالسلطة تحت لقب تريفون، وبالرغم من أن هذه المحاولة نجحت في بادئ الأمر، إلا أن مؤيدي العائلة الحاكمة وحدوا صفوفهم وتمكنوا من قتل تريفون بعد ثلاث سنين من حكمه وأطلقوا عليه لقب المختلس باعتباره مغتصباً لكرس الحكم الشرعي.

وفي أيام تريفون المختلس هذا أُحرقت بيروت بأمر منه، وزيادة في النكاية فإنه أطلق جماعته يعملون في نقض بنيان المدينة من أساسه فأمست خراباً يخيم على أطلالها البوم، وينعق في أنقاضها غراب البين.

وقد بقيت بيروت على خرابها آنذاك إلى حين زوال العهد السلوقي وقدوم الرومان إلى هذه البلاد، أي قرابة مائة سنة بالتمام والكمال، وفي خلال هذه السنوات العجاف خلت بيروت من سكانها الذين اضطروا لهجرانها والنزوح إلى الجهة الجنوبيّة منها حيث سكنوا بمحاذاة البحر في نفس المكان الذي يخترقه اليوم أوتوستراد خلدة، وذلك بالقرب من البناء الذي كان أبناء الجيل الماضي يسمونه خان خلدة الجديد، وقد أطلق البيروتيون المهجّرون آنذاك على المنطقة التي عمروها وسكنوها إسم (اللاذقيّة الجديدة) أو(لاذقية كنعان)، وردت كلمة لاذقية بالمراجع القديمة بلفظ (لأوذيسة) ومعناها مدينة، وقد قامت المديرية العامة للآثار قبل عشرات السنوات بحفريات تنقيبيّة في المكان المذكور، فظهرت أطلال هذه المدينة التي إستحدثها البيروتيون المهجرون وبجوارها المقبرة التي كانوا يدفنون فيها موتاهم.

الزلازل والحرائق ترهق بيروت

ما كادت بيروت تسترد أنفاسها بعد الذي أصابها من ويلات المتصارعين على النفوذ من الأجانب على أرضها في السنوات السابقة للميلاد حتى وجدت نفسها في السنوات اللاحقة للميلاد تترنح تحت ضربات الزلازل التي نشبت في أديمها وجعلت عالي أرضها سافلاً وسافلها عالياً، وحولت عمرانها خراباً، ولم توفر المؤسسات الحكوميّة ولا معاهدها العلميّة التي دفعت بدورها ضريبة هذه الزلازل من منشآتها التي كانت تضّم بين جنباتها أروع ما أبدعته أيدي الفنانين الرومان، كما كانت، في نفس الوقت، موئلاً للعلماء من الوطنيين والأجانب الذين كانوا مقصداً لطلاب المعارف الفلسفيّة والدراسات الفقهيّة والقانونيّة والأدبيّة.

كان ذلك ما بين القرنين الرابع والقرن السادس بعد الميلاد، ففي سنة 349م مادت الأرض تحت أقدام البيروتيين الذين انقلبت مدينتهم رأساً على عقب، وجعلتهم بين دفين تحت التراب، هائم على وجهه يلتمس النجاة من هول المصاب، واعتقد بعض الناس أن الأرض زلزلت بهم عقوبة لهم على عبادة الأصنام وعدم الاستجابة للديانة النصرانيّة التي كانت تدعوهم للتخلي عن تلك الأصنام والدخول في سلك الإيمان بالله خالق الأكوان والأقوام، فأسرعوا إلى التخلي عن الوثنيّة واعتنقوا النصرانيّة، ولكن هذا التحول العقائدي لم يدم طويلاً، إذ أنه عندما استعادت الأرض البيروتيّة هدوءها واطمأنت القلوب الهالعة بعد إضطرابها، إنخلع المتنصرون من دينهم الجديد وانقلبوا إلى الوثنيّة السابقة بعد أن شابوها ببعض الرواسب النصرانيّة بحيث أصبحوا يدينون بمذهب جديد هو خليط مُلفّق بين النصرانيّة والوثنيّة.

وفي السنوات 494 و 502 و 529 و 543 و 551م تعاقبت الهزات الأرضيّة على طول ساحل فينيقية، الساحل اللبناني اليوم، وكانت الهزات الأربع الأولى قليلة التأثير في بيروت بخلاف صيدا وصور اللتين مَدَّ عليهما الزلزال رواقه المدمر فإنهما خربتا تماماً وسُوّي ما فيهما من البنيان بالأرض ولم يبق فيهما عمار ألبتة.

بيد أن الهزة الخامسة التي وقعت سنة 551م، كانت أوفر من سابقاتها تأثيراً وأشمل خراباً في بيروت بالذات، ونقل المؤرخون أن هذه الهزة دكت أبنية بيروت الشامخة وأصبحت هذه الأبنية قاعاً صفصفاً، وهلك تحت أنقاضها جمّ غفير من الأهلين الوطنيين والأجانب الساكنين فيها، وقيل إن عدد هؤلاء الهالكين قُدِّر يومئذ بنحو ثلاثين ألف نسمة ويزيد، وكانت الخسارة الكبرى خراب المدرسة الفقهيّة التي أنشأها الرومان في هذه المدينة إذ أن هذه المدرسة لم يكن حظها أسعد من حظ باقي الأبنية، فقد تهدمت وانفرط عقد الذين كانوا فيها من العلماء والمتعلمين، وأصبح هؤلاء وأولئك صرعى لا حراك بهم تحت أنقاض تلك المؤسسة العلميّة التي طالما ضجّت أروقتها بالمناظرات والمحاضرات.

صحوة ما قبل النهاية

بعد أن هدأت ثائرة زلزال 551م، دبّت الحياة من جديد في أنحاء بيروت عندما انصرفت همّة حكامها الرومان إلى مسح غبار الخراب والدمار عن بقايا معالمها ومؤسساتها، ونشطوا في إصلاح أبنيتها وترميم معاهدها العلميّة ومعابدها الدينيّة، وفي أثناء ذلك أعادوا إليها مدرسة الحقوق التي كانوا قد نقلوها موقتاً إلى صيدا بسبب الزلزال المذكور، وخيّل للناس أن مياه العمران عادت إلى مجاريها في مدينتهم المنكوبة نتيجة إصابتها بدوار الهزات الأرضيّة، وبالرغم من أن هذا الدوار الزلزالي أصابها في سنة 554م بعارض منه، إلا أنه هذه المرة لم يكن عنيفاً ولا شديد الوطأة عليها مما أتاح لهذه المدينة مواصلة مسيرتها العُمرانيّة، وبقيت مدرستها الحقوقيّة مشرعة الأبواب لقاصديها من العلماء والمتعلمين.

بيد أن شراع حظ البيروتيين وجّه سير مدينتهم بما لم تشته سفن آمالهم وشلّت أيديهم عما كانوا قد أخذوا أنفسهم به من العمل من أجل إكمال بناء مدينتهم.

في سنة 560م عصف حريق هائل أخذ شواظه اللاهب بتلابيب بيروت من كل حدب ومن كل جانب وإمتدت ألسنة النيران إلى كل ما فيها من الأبنية الخاصة والعامة، ولم تترك ما دخلت إليه إلا وهو كهشيم المحتضر، وقد إختلط رماده بأنقاضه، ولما انتهى هذا الحريق انتهت معه أيضاً مدينة بيروت السعيدة، كما لقبها أوغسطس قيصر عندما قدمها هدية لابنته جوليا بمناسبة زواجها من القائد مرقس فسبيانوس أغريبا، الذي عيّنه الإمبراطور الروماني في نفس الوقت حاكماً على مستعمرته الممتازة بيروت.

رثاء بيروت في قصائد الرحالين

إن كبوة بيروت تحت ضربات الزلازل ونيران الحرائق جعلت الشعراء والرحالين والمؤرخين، في ذلك الوقت، يعبرون عن أسفهم على هذه المدينة شعراً ونثراً، وقد وصل إلينا من هذا الشعر والنثر مقتطفات ننقلها إلى أبناء زمننا لعلهم يربطون ما بين ذكريات الماضي ووقائع الحاضر، بما يعطيهم فكرة عن المآسي المتواترة على مدينتهم بيروت وقدرتها في الإستعلاء على هذه المآسي والإستمرار في تفاؤلهم بمستقبل هذه المدينة المتدرعة بجلباب الصب والإيمان بالله عزّ وجل والثقة بالنفس.

رثاها شاعر إغريقي من آسيا الصغرى (تركيا اليوم) معاصر للحوادث المذكور بقوله : (بيروت، أجمل المدن، الدرة في تاج فينيقية، فقدت لاءها ورونقها، بناياتها التي تُعّد آيات في فن العمارة تداعت وسقطت ولم يبق فيها جدار واقفاً، لم يثبت منها سوى الأساسات).

ورثاها شاعر إغريقي آخر من إسبانيا بشعر تفجّع فيه عليها بقوله على لسانها: (... ها أنا ذا، المدينة التاعسة، كوم من الخرائب، أبنائي أموات، ياللحظ العاثر المشؤوم، إلاهة النار أحرقيني بعد أن هزت الزلزال أركاني، يا لتعاستي، بعد أن كنت مجسَّم الجمال، أصبحت رماداً، هل تبكون أيها العابرون الماشون فوق أطلالي؟ هل تسكبون عليَّ دمعة حزن؟ هل تأسَوْن لمجد بيروت التي لا وجود لها؟ أيها الملاح لا تمل بشراعك نحو شاطئ، لا تنزل شراع مركبك، فإن المرفأ الأمين أصبح أرضاً يابسة قفراء، أصبحت لحداً موحشاً، أمِل عني، سْرعني، إلى الموانئ الفرحة التي لا تعرف البكاء إلى موانيها سِرْ على صوت قرع المجاذف. هكذا شاء الإله بوسيدون، إله البحر والزلزال، وهكذا شاءت الإلهة السماء. وداعاً يا ملاحي البحار، وداعاً أيتها القوافل الآتية من وراء الجبال!).

ورثاها الشاعر الإغريقي أغاثيوس بقصيدة طويلة جاء في بعضها ما تعريبه قوله : (... ذوت زهرة فينيقيا مدينة بيروت بمصاب الزلزال الرهيب، وزال عنها جمالها الرائع، ودُكت أبنيتها الشامخة، البديعة المنظر، المحكمة الهنداس، فتقوضت عن آخرها ولم يبق منها سوى الردم والخراب، وهلك تحت أنقاضها جمع غفير من الأهالي والأجانب والمستوطنين فيها، وأذاقت كأس المنية، نخبة من الشبان المتقاطرين إليها لدرس الحقوق في معاهدها الرومانيّة الذائعة الصيت، التي كانت لها فخراً ولمفرقها تاجاً، تباهى به أعظم المدن أخواتها!..).

وتابع هذا الشاعر المتفجع نفثاته الحرَّى على بيروت، فنظم على لسانها رائعة شعريّة مؤثرة قال فيها :

(... وأسفاه إني لمن أشأم المدن وأسوائها حالاً، رأيت جثث أبنائي متراكمة في شوارعي وساحاتي مرتين، في ظلال تسع سنوات رماني إله النار (فولكان) بسهامه المتقدة بعد أن صدمني إله البحر (نبتون) بتياره الجارف ! واأسفاه على بهائي الرائع،، كيف طمسه الدهر، وأحالني إلى رماد ! ... فيا عابري الطريق، ابكوا لسوء حظي، واندبوا بيروت المضمحلة ! ...).

بقي أن نقول إن آثار الخراب التي خلفها الزلزال الأخير في بيروت بقيت مائلة للعيان حتى القرن السادس للميلاد، فقد مرَّ بها آنذاك سائح يُدعى أنطونين ويُعرف بلقب الشهيد وكتب عنها يقول: (... وصلنا إلى المدينة الفائقة الجمال، بيروت التي كانت فيها قبل هذه السنين المدرسة الحقوقيّة الذائعة الصيت .... وهي التي إستولى عليها الخراب).

السائح البليزنسي الشهير صاحب كتاب (L’Anonyme de Plaisance) زار سوريا وكتب إنطباعاته عن هذه الزيارة بقوله: ( ... سرنا من انتارادوس (طرطوس) إلى طرابلس، وهي مدينة خربت بسبب الزلازل التي حصلت في عهد الإمبراطور يوستنيانوس، ومنها إنتقلنا إلى تيرسيريس (أنفا") فإلى بيبلوس (جبيل) وهما تقوضتا على سكانهما... ثم وصلنا إلى بيريت (بيروت) المدينة الفائقة الجمال التي إزدهرت مؤخراً فيها الدروس العلميّة، وهي أيضاً كان الزلزال قد خربها!).