عاصم قانصوه

كل من شاهد الوزير والنائب عاصم قانصو ليلة اعلان الرئيس بشار الأسد المباشرة في تنفيذ القرار الدولي 1559، معتمرًا كوفية بيضاء منقطة بالأحمر، متجهمًا وهو ينظم ويقود تظاهرة سيارة في شوارع بيروت، ادرك ان الرجل كان يشعر منذ تلك اللحظة بالفقد الكبير. كان الرجل متجهمًا لأن مرتكز سطوته وسلطته آخذ في الأفول وليس له ثمة بديل آخر يلجأ إليه فيما لو اراد اللجوء.

عاصم قانصو عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي وامين سر هذا الحزب منذ سنوات، ليس من مبرزي الحزب في السياسة لكنه من اعمدته الدائمة الحضور.

 والحق ان السيد قانصو لم يزرع في السياسة ما يمكن حصاده بعد زوال نظام الهيمنة. تاريخه في البعث قديم. من قيادييه التاريخيين في لبنان إذا ارّخنا لهذا الحزب منذ تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد زمام الأمور فيه. لكنه قيادي يستمد حضوره من هذه العلاقة الحزبية بمعظم مقوماتها. على مر تاريخه لم يتردد السيد قانصو مرة واحدة في تنفيذ ما يطلب منه، وكان دائمًا حريصًا على مصلحة سورية في لبنان. ومنذ منتصف التسعينات كان رجل سورية الأوفى والأبرز في صفوف البعث. انتخب نائبًا عن المقعد الشيعي في دائرة بعلبك – الهرمل عام 1996 وهي معقل من معاقل حزب الله الانتخابية، واعيد انتخابه في العام 2000 عن المقعد نفسه وهو الآن وزير العمل في حكومة عمر كرامي.

قبل هذا التاريخ كان عاصم قانصو من رجال البعث الأساسيين، لكنه لم يكن مقدمًا ومبرزًا في صفوفه على المستوى العام. وثمة اقاويل كثيرة تشير إلى اعتماده ركنًا اساسيًا من اركان السياسة السورية في لبنان منذ ان اعتمدت القيادة السورية في اواخر عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد خيار حكم لبنان بالأمن لا بالسياسة. على هذا الأساس تضاءلت زيارات نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام إلى بيروت، وقلت تدخلاته في الشان اللبناني العام. ليترك لبنان فريسة لرجال الأمن السوريين يديرون سياسته واحواله بعقلية الضباط. الحديث في بيروت كان يدور عن اعتماد عاصم قانصو وتنحية عبدالله الأمين بوصف الأول يمثل انتصار الخيار الأمني والثاني يمثل غلبة الخيار السياسي في التعامل مع لبنان على مستوى القيادة السورية.

على كل حال لا يسعنا اعتبار السيد قانصو رجل سياسة في لبنان. لنقل انه رجل مواقف فجة. فهو لا يداور ولا يقيم اعتبارًا لأي كان. جملته حادة، وموقفه بالغ الوضوح. ينطق بلسان ضابط التحقيق ولا يجيد لغة السياسي. ولا يتورع عن سوق الاتهامات بالجملة، بوصف كل من يختلف معه مشبوهًا وينبغي الحذر منه.

قبيل انتخابات العام 2000 فتح وليد جنبلاط خطًا على المعارضة المسيحية للوجود السوري في لبنان. التقى مع البطريرك الماروني واقام مصالحة مع امين الجميل خصمه اللدود في حرب الجبل في العام 1984. وتحت قبة البرلمان، وحين كان يناقش جنبلاط في ضرورة اصلاح العلاقة بين لبنان وسورية، طلب قانصو الكلام واتهمه على الفور بالعمالة. والعمالة تعني في المقام الأول ان جنبلاط يتعامل مع العدو الاسرائيلي وهي تهمة بالغة الخطورة في لبنان. لكن جنبلاط اعاد ترطيب الأجواء مع دمشق بمسعى ووساطة من امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله والرئيس الشهيد رفيق الحريري.

وما ان استقرت العلاقة بين جنبلاط ودمشق على نحو ما، حتى عاد قانصو عن اتهامه واثنى على دور جنبلاط الوطني والقومي. بهذه الخفة يستطيع الوزير عاصم قانصو ان يطلق تهمًا بالغة الخطورة ثم يعود عنها كما لو كان صبيًا طائشًا. وتلك لم تكن المرة الأولى التي يطلق فيها اتهامات ثم يعود ليعتذر عما بدر منه في وقت لاحق. على كل حال لم يلبث السيد قانصو ان اعتذر من الشعب اللبناني على ما صرح به وقام بالتحريض عليه اثر التظاهرة الأخيرة ايضًا في برنامج تلفزيوني شهير.

هذه صفات رجل لا يستطيع ان يدير علاقات سياسية ملتوية وبالغة الصعوبة في بلد كلبنان. لهذا يبدو اعتماده ممثلًا للبعث السوري في لبنان موحيًا بالمعنى الذي رست عليه العلاقة السورية مع لبنان. كانت الإدارة السورية تريد جنودًا يلتزمون الاوامر وينفذونها من دون نقاش. وعلى هذا لم تستسغ القيادة السورية اعتراض الرئيس الحريري على التمديد للرئيس اميل لحود، بوصفه بدا بالنسبة لهم كما لو انه صاحب رأي في بلده. وهذا ما لم يكن مستساغًا او مقبولًا بالنسبة لها. فكان لبنان يدار كما لو كان قطعة عسكرية تأتمر بأوامر الضباط من دون اي اعتراض.

حين تكون الدعامة الأولى للسياسة السورية حيال لبنان على هذا النحو من الصلافة والقسوة وقلة الاعتبار، لا يبدو غريبًا ان يتقدم رجال من امثال عاصم قانصو إلى المقام الأول. كان السيد قانصو طوال زمن الهيمنة السورية على لبنان حارسًا امينًا لطلبات ومتطلبات وتوجيهات الإدارة السورية من دون زيادة او نقصان. وهو في هذا المعنى رجلها الأوفى والاقل إثارة للاسئلة او تقديرًا للعواقب الشخصية.

لطالما تصرف السيد قانصو كموظف ينهي عمله في النهار ويعود مساء إلى بيته لينصرف إلى شؤونه الخاصة. كان في احوال استتباب الأمور للسيطرة السورية يخرج من الصف الأول ويعود إلى حياته الشخصية. ولا يعود للبروز إلا حين تحوق بالسيطرة السورية بعض الأخطار. فيهدد ويتوعد ويتهم كل من تسوّل له نفسه الاعتراض على الأداء المخابراتي السوري في لبنان.

قد يكون وضع السيد قانصو وطريقة اشتغاله في السياسة خير مثال على الطريقة التي يراد للسياسيين في لبنان ان يتبعوها في علاقتهم مع الشقيقة الكبرى: ينفذون التعليمات في اوقات دوامهم ويعودون إلى بيوتهم ليتمتعوا مساء بامتيازات السلطات الممنوحة لهم، لا أكثر ولا اقل. عليهم ان يدعوا السياسة والاهتمام بأمرها إلى اصحاب القرار، وما عليهم سوى تنفيذ التعليمات بحرفها ومن غير زيادة او نقصان. لكن ما كان ينقص الهيمنة السورية على لبنان، يتعلق بصناعة مبرراتها الدائمة. لا تنجح هيمنة من دون مبررات يعاد صوغها على نحو متكرر ودائم. لهذا كان الدور السوري يفتقد كل يوم مبرراته وسياقاته التي تتيح له الاستمرار.

والحق ان الاداء السوري الذي كان يهدف إلى ضبط لبنان تحت مظلة الأمن، مستفيدًا من الوكالة الدولية الممنوحة له في هذا الشأن، سرعان ما تهاوى وانفكت عراه ما ان نزعت هذه الوكالة عنه وقررت الإرادة الدولية ان تخرجه من دائرة التأثير. كانت الحجة السورية هي نفسها على طول الخط، التصدي لاسرائيل والخوف من لبنان المتقلب. خاصرة سورية الرخوة على ما يدعى في الأدبيات. هذه الحجة لم تشهد اي تعديل عليها رغم كل ما جرى: اخرج اللبنانيون اسرائيل بمقاومة فاعلة، رغم ذلك لم يهتز في الحجة السورية حرف واحد؛ ضربت اسرائيل اكثر من مرة القوات السورية في لبنان وسورية، ولم تستطع سورية الرد، رغم ذلك كانت الحجة السورية تقول ان جيشها يحمي لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية. والأمثلة لا تحصى على تحجر الحجة السورية وعلى بلوغها حدها الأخير، خصوصًا بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. كان على كل عاقل ان يدرك ان ثمة الكثير مما تغير منذ ذلك الحين. لكن الإدارة السورية حجزت كل اعتراض بمنطق الأمن والتخويف.

وكانت تريد من الساسة اللبنانيين ان يمتثلوا لإرادتها من دون اي تذمر او نقاش. في هذا السياق كان عاصم قانصو خير من التزم وانضبط تحت سقف الأداء السوري ولم يبد اي اعتراض. كان سياسيًا في اوقات الدوام الرسمي، بمعنى انه لم يكن يطمح إلى اكثر من تأبيد الهيمنة السورية على لبنان، وما على السياسيين فيه إلا اعلان هذه الرغبة القاطعة، والتذكير مرارًا وتكرارًا بضرورة الانضباط كما لو كان اهل البلد كلهم مجرد مساجين او جنودًا ينفذون الاوامر.

عودة لصفحة رجال لبنان السوريون

عودة لصفحة الملف الأسود

 [ أعلى الصفحة]