الفتح الإسلامي لبيروت

إنّ لبنان بمُجْمَل مُدُنه وقُراه لم يُخرج مؤرِّخاً يدوِّن الأخبار والوقائع التاريخيّة أو يصنِّف في هذا الفنّ عن تلك الحقبة من (العصر الوسيط)، رغم أنّه ظهر فيه بعض الأخباريّين الذين كانوا يُخبرون ويقصّوّن بعض الوقائع من المغازي والفتوحات والسيِّر التي عاصروها أو سمعوا بها من شيوخهم، أمثال: هشام بن الَّيْث الصوُّرِي، وهشام بن الغاز الجُرَشيّ الصَّيْداويّ، وسعيد بن عبد العزيز التَّنُوخيّ البَيْرُوتي، ومعاوية بن يحيى أبو مطيع الأطْرَابُلُسيّ، وسليمان بن أبي كريمة الصَّيْداويّ وغيرهم...

إنّ حركة التدوين التاريخيّ لم تظهر واضحةً إلاّ في أواخر القرن الثاني الهجري، وبعد قيام الدولة العباسيّة، وقد استأثرت أخبار الخلافة والخلفاء في بغداد باهتمام المؤرّخين، فدوَّنوا يومياتّ الخليفة، وأخبار عاصمة الخلافة، وأهملوا أخبار وحوادث المدن الأخرى إلاّ بالنّزْر اليسير، خصوصاً التائية منها، ولا شكّ أنّ بُعد المسافات وصعوبة الاتّصالات مع العاصمة المركزية في ذلك الوقت أسهم في عدم وصول المعلومات والأخبار بشكلٍ سريعٍ، وبالتالي لم تأخذ طريقها في التدوين التاريخيّ، ولعلّ المؤرّخين المسلمين كانوا يتحرّجون في تدوين أخبار المدن البعيدة بدافع من الحيْطة والحِرْص على تَوَخَّي الصِّدْقَ في تلقَّي المعلومات التي قد يشكُّون في أمانة ناقلها إذا لم يتوافر على نقلها جماعة من الثَّقات، أو إذا لم تأتِ في مراسلاتٍ رسميّة.

إنّ لبنان بحدوده الجغرافية المتعارف عليها الآن سياسيّاً، لم يكن خلال الفترة التي ندرسها هنا إقليماًً طبيعيّاً من بلاد الشام، تابعاً للسلطة المركزيّة في دمشق تارةً (العهد الأمويّ) وللسلطة المركزيّة في بغداد تارةً (العهد العبّاسيّ)، وللسلطة المركزيّة في الفُسطاط، والقطائع، ثم القاهرة {تارة أخرى} (العهد الطولوني، العهد الأخشيدي، ثم العهد الفاطمي)، ولهذا كانت عمليّة التأريخ لمُدُنه تُصّنَّع خارج حدوده، أي أنّه كان بلد (استيراد) للمدوّنات التاريخيّة، وليس بلد (تصدير)، وإن كان هذا العجز في (التبادل) قد أخذ يميل إلى التحسُّن نوعاً ما بعد حركة الحروب الصليبيِّة، بظهور عددٍ من المؤرخين اللبنانيّين، أمثال:

قُطب الدين اليُونيني، من بلدة يُونين البقاعيّة، توفّي سنة 726 هجرية.

برهان الدين البقاعيّ إبراهيم بن عمر الرباط، ولد سنة 809 للهجرة وهو من أهل قرية خِرْبة روُحا بالبقاع.

صالح بن يحيى البحتُريّ البيروتي، من مؤرخي القرن التاسع الهجري، له كتاب {تاريخ بيروت} وقد طُبع مرتين.

حمزة بن أحمد بن سباط العالَيْهي، من بلدة عاليه بجبل لبنان.

وغيرهم ممّن جاء بعدهم.

يبدأ تاريخ الإحتكاك الحربيّ بين العرب المسلمين وأهل المدن اللبنانية في وقت مبكّر، سبق فتح المسلمين لدمشق، وكان ذلك الإحتكاك مع أهل مدينة بَعْلَبَك، وبالتحديد عند حضور خالد إبن الوليد من العراق إلى الشام لنجدة المسلمين في فلسطين سنة 13 للهجرة الموافق للسنة 633 لميلاد، وبعد خروج سرايا المسلمين الثلاث، بقيادة:

1.   عمرو بن العاص: إلى فلسطين ومصر.

2.  يزيد بن أبي سفيان: إلى بلاد الشام (سوريا ولبنان حالياً).

3.   شُرَحْبيل بن حَسَنَة: إلى الأردن.

وبعد فتح بَعْلَبَك كان خالد إبن الوليد يصطحب معه ابنه عبدَ الرحمن عند حصار بَعْلَبَك، حيث قال الشاعر كعب بن جُعَيْل:

بإعوال البُكاء على فتاها

ألا تبكي وما ظَلَمَتْ قريْشٌ 

وحمص: من أباح لها حِماها

فلو سُئلتْ دمشقُ وَبعْلَبَك

 وهدم حِصنْها وحَوَى قُراها

فسيْفُ الله أدخَلَها المَنَايا

يرتبط تاريخ الفتح الإسلامي لبيروت بتاريخ فتح كلِّ من : صيدا وعِرْقة وجُبَيْل، حيث جرى فتح هذه المدن كّلها في وقت واحد، حسب رواية (البلاذُري)، وذلك نحو سنة 13 للهجرة النبويّة الشريفة على الأرجح، ويظهر أنها كانت صغيرةً وغير محصّنة بما يكفي، ولهذا كان فتحها فتحاً يسيراً، على يد يزيد بن أبي سفيان، وكان في مقدّمة جُنْده أخوه معاوية. ونتج عن الفتح أن أُجلي الكثير من أهلها، من الروم في الغالب.

ومما يُلْفِت النظر أن المؤرّخ (الطبريّ) لا يتحدّث عن فتح بيروت مطلقاً، وليس في تاريخه أيّ خبر عنها، بالرغم من أنه نزلها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وقرأ فيها.

ومنذ أن فُتحت، أصبحت بيروت تابعة لولاية (يزيد بن أبي سفيان)، وبعد وفاته في سنة 18 للهجرة أصبحت تابعة لمعاوية والي الشام، وصارت تُعرف بساحل دمشق، ونظراً لموقعها الجغرافي فقد أصبحت الميناء الطبيعيّ لدمشق، ولهذا فإنّ معاوية أهتّم بها وراح يُرسل إليها الناس لسُكناها وأعمارها والدفاع عنها، خصوصاً بعد أن تمكّن البيزنطيّون من الاستيلاء على سواحل الشام لمدّة سنتين بعد فتحه، فكان أكثر أهلها من الفُرس الذين نقلهم معاوية إليها.

ولقد أسهمت بيروت مثل غيرها من المدن الساحلية في الغزوات البحرية التي قام بها المسلمون إلى جزر المتوسّط، كما أسهمت في الدفاع عن سواحل الشام، فرابط فيها جماعة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

ومنذ فتح المسلمون سواحل الشام (لبنان حالياَ) في عهد الخلفاء الراشدين تحوّلت المدن الثغريّة إلى رباطٍ للصحابة (رضوان الله عليهم) وللمجاهدين في سبيل الله، وكان الصحابة يفضلون الرباط على الجهاد لأنّ في الجهاد شروطاً كثيرة ليست في الرباط، وكان ساحل الشام كلّه يُعتبر رباطاً بعد الفتح، إذ عنده تنتهي الدولة العربيّة الإسلاميّة على الطرف الشرقي للبحر المتوسّط، وفي الطرف الآخر، حدود دولة الروم البيزنطيّة بأسطولها البحري الذي يهدّد سواحل الشام في كل وقت.

ويؤيد ذلك ما ذكره الحافظ إبن عساكر الدمشقي مرفوعاُ عن أبي الدرداء الأنصاريّ: (( أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة "الفراتيّة" مرابطون في سبيل الله، فمن احتلّ منها مدينة من المدائن فهو في رباط. ومن احتلً منها ثغراً من الثغور فهو في جهاد )).

ويُعتبر أبو الدرداء أول من قدِم للرباط في ساحل لبنان من الصحابة، حيث نزل بيروت بعد فتحها مباشرة، وهذا ما تفيدنا به رواية (محمد بن المبارك الصوريّ) المتوفَّى سنة 215 للهجرة، والتي تقول إنّ سلمان الفارسيّ قدِم دمشق، فلم يبق فيها شريف إلاّ عرض عليه المنزل، فقال: عزمت على بشير بن سعد مرّتي هذه، فقد كانت مُرابط أهل دمشق منذ عهد الخليفة عمر بن الخطّاب، إذ سأل سلمان الفارسي الدمشقيّين عن أبي الدرداء، فقالوا له: إنه مرابط، فقال: وأين مرابطكم يا أهل دمشق؟ قالوا: بيروت. فخرج للرباط معه هناك.

فهذه الرواية تؤكّد لنا أنّ مرابطة أبي الدرداء وسلمان الفارسيّ كانت في وقت مبكرٍ بعد فتح المسلمين لبيروت مباشرة.

ويقول إبن حَوْقَل: (بيروت على ساحل بحر الروم، وهي فُرْضة بَعْلَبَك، وبها يرابط أهل دمشق وسائر جُندها، وإليها ينفرون عند استنفارهم).

وقد كانت بيروت حتى نهاية القرن الأول الهجري لا تزال تتمثّل بأخلاق الصحابة والتابعين الذين نزلوها ورابطو فيها، وتحيا بزُهّادها وحكم أقوالهم، وبلاغة مقصدهم وغاياتهم السامية، وتواضُعهم في الملبس والمظهر.

المرابطون

يمكن القول إنّ معظم المسلمين الذين كانوا يسكنون ثغور الشام الساحلية يصحّ وصْفُهم بالمرابطين. ولكن المصادر التاريخية وكتب الطبقات وتراجم الرجال وغيرها لم تصرّح إلاّ بأسماء العدد القليل من الذين وُصفوا بأنهم من المرابطين، مع جماعة الزُّهاد وأمراء البحر، والغُزاة في البرّ والبحر، ووُلاة المدن الساحلية وعُمالها وقُضاتها، ويُعتبر غُزاة البحر بشكل خاص، من المرابطين، لإرتباطهم بالثغور الساحلية وقد مرّ معنا في هذا البحث عدّة غُزاة وأمراء للبحر في ساحل الشام ، ولم تُسعفنا المصادر عن أسمائهم، ولكن يمكن أن نضيف إلى غُزاة البحر : عبد الملك بن مروان، إذ ذكر أبو الفرج الأصفهاني أن معاوية بن أبي سفيان استعمل (الحارث بن الحَكَم بن أبي العاصي) على غُزاة البحر، فنكص واستعفى، فوجّه مكانه إبن أهيه عبد الملك بن مروان، فمضى وأبلى وحسُن بلاؤه وكان في مقتبل العمر، قال عبد الرحمن بن الحكم يهجو أخاه الحارث لتخلّفه عن الغزو وخروج عبد الملك وهو شاب:

قريبَ  الخُصيْتَيْن  من  الترابِ شِنئْتَكَ  إذ رأيتكَ   حَوْتكيّاً
لبرغوثٍ  ببعرةٍ  أو  صُؤابِ كأنكَ  قملةٌ  لقِحَتْ  كِشافاً
حديثُ  السّنّ  مُقتَبَلُ  الشبابِ كفاك  الغزوَ إذ أحجمتَ  عنه
وليتك عند منقطَع السحابِ فليتك  حيضةً  ذهبتْ  ضلالاً

ونقتصر هنا على إيراد أسماء الذين نصّت كُتُب التاريخ على أنهم نزلوا ساحل الشام للرباط، في العهد الأمويَ، وهم:

اعيل بن عُبَيد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم.

حسّان بن سليمان، أبو علي الساحلي.

سعيد بن أبي سعيد البيروتي الساحلي.

سعيد بن خالد بن أبي طويل القرشي الصيداوي.

شُرَحبيل بن السَّمْط بن شُرحبيل الكِنْدي.

عطاء بن ميسرة الخُراساني.

الليث بن تميم الفارسي الطرابلسي.