الفصل الأول

أثر موقع بيروت في تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين البيارتة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أثر سور بيروت وأبوابها في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بيروت

تقع مدينة بيروت على الشاطئ الشرقي من البحر المتوسط، يحدها غرباً البحر، وجنوباً ضواحيها ومنطقة خلدة امتداداً إلى صيدا وجوارها، وشرقاً جبل لبنان، وشمالاً البحر، وبعض المناطق الضواحي الشمالية .

وتقع بيروت في إقليم معتدل يتميز بجودة الطقس واعتدال في المناخ وجمال في المنظر.

وتذكر بعض المصادر بأن إسم بيروت مشتق من "بيريت" أي الآبار، وذلك لكثرة وجود الآبار والينابيع فيها.

وكانت بيوت بيروت العثمانية تذخر بالآبار أو بآبار الجمع ومنهم من رأى أن "بروتا" تعني السرو أو الصنوبر.

وعندما يقال بيروت في العهد العثماني، إنما كان يقصد بها بيروت الوادعة داخل سورها، وفيما عدا ذلك من مناطق تدخل اليوم في نطاق بيروت، فإنما كانت تعتبر ضواحي بيروت، فقد كانت البسطة والمصيطبة وبرج أبي حيدر وزقاق البلاط والقنطاري والباشوراء، والنويري، والأشرفية وسواها من ضواحي بيروت، وكانت تتميز بكثرة مزارعها وأشجارها لا سيما التوت المرتبط زراعته بإنتاج الحرير، لذا كانت تسمى المناطق على النحو التالي: مزرعة الأشرفية، مزرعة الحمراء، مزرعة القنطاري، مزرعـة العرب، وهكذا. كما أن ساحة البرج ذاتها كانت خارج السور، وهكذا أيضاً بالنسبة للبنك العثماني (دائرة الشرطة اللبنانية فيما بعد) .

والحقيقة فإن تطور مدينة بيروت خارج السور، إنما جاء نتيجة متطلبات عمرانية واجتماعية واقتصادية وسكانية، حيث بدأت أعداد المدينة تزداد تباعاً .

وكانت حتى عام 1746 مجرد مدينة متواضعة تخضع لأحد الضباط الأتراك، ثم سرعان ما بدأت بالتطور الاقتصادي نتيجة للأمن الذي تميزت به، ونتيجة جهود تجارها، مع ما يتميز به ميناؤها من مميزات تؤمن الأمان للسفن، علماً أن روح التسامح عند المسلمين وعدالتهم شد إليها الكثير من التجار الأجانب وتجار المناطق اللبنانية والشامية لا سيما دمشق.

وشهدت بيروت بعض الجمود في عهد الوالي أحمد باشا الجزار (1776 1804) ، ولكن سرعان ما استعادت نشاطها في عهد واليها سليمان باشا (1804 1819) . ونتيجة التطور الاقتصادي الذي أصابها، فقد بدأت الدول الأوروبية تنتبه إلى أهميتها، فافتتحت الدول الأجنبية ومن بينها فرنسا قنصليات لها في بيروت لا سيما في القرن السابع عشر، لمتابعة نشاط تجارها ورعاياها، وعلاقتهم بهذه المدينة وبمنتجاتها وببضائعها.

وكانت بيروت العثمانية يسيجها سور على غرار أسوار المدن العربية والإسلامية، وقد قام الأمير نائب الشام بتجديد سور بيروت في العصور الوسطى، ثم قام بتنظيمه وتحسينه الوالي أحمد باشا الجزار في أواخر القرن الثامن عشر يوم طمح إلى الاستقلال والخروج على مولاه الأمير يوسف الشهابي.

وكان يتخلل سور بيروت أو كما يلفظه البيارته "صور" بالصاد، سبعة أبواب وبعض الأبراج. وكان يمتد هذا السور من شمال الساحة، أي شمال (الهال) الهول وشمال موقع السبيل الحميدي، وما عرف فيما بعد باسم ساحة رياض الصلح، وبمحاذاة حائط سينما كابيتول، ويمتد باتجاه الشرق حتى كنيسة مار جرجس المارونية التي تقع داخل السور، ثم يمتد شمالاً نزولاً إلى سوق أبي النصر، إلى أن يصل حائط السور إلى بناية دعبول تجاه جامع السراي (جامع الأمير عساف)، ثم يمتد شمالاً أيضاً إلى غربي مرفأ بيروت حيث ميناء القمح (قرب خان انطون بك)، بعد ذلك يمتد السور غرباً حتى مقبرة السمطية التي كانت خارج السور على غرار بقية المقابر، ثم يمتد صعوداً قبلة أي جنوباً باتجاه باب ادريس وكنيسة الكبوشية التي كانت خارج السور، فمدرسة الشيخ عبد الباسط الأنسي فسوق المنجدين، ويستمر السور صعوداً إلى أن يلتقي مع بدايته في الساحة. وعن مساحة بيروت، يرى الكونت دومنيل دوبويسون في مقالة: استحكامات بيروت وتحصيناتها

القديمة : " كان قياس تلك المدينة من أرصفة مرفئها القديم إلى باب الدركه الجنوبي يبلغ (570) متراً فقط، أما قياس امتدادها من بابها الشرقي أي باب السراي إلى بابها الغربي باب إدريس فما كان يزيد عن (370) متراً. وكان الغالب عليها أسواقها التي في النهار كانت تموج في وسطها وعند أبوابها بحركة البائعين والتجار، ثم تعود إلى هدوئها ليلاً بعد أن تقفل أبوابها وتودع مفاتيحها عند واليها". وفيما يختص بارتفاع جدران السور فتقارب خمسة أمتار، بينما سماكتها حوالي أربعة أمتار.

أما أبواب بيروت فقد كانت مصفحة بالحديد تقفل عند المغرب باستثناء باب السراي الذي كان يقفل عند العشاء. وهذه الأبواب هي : بـوابة يعقوب ، باب الدركاه (الدركه) ، باب أبو النصر (باب مستحدث في القرن التاسع عشر) ، باب السراي ، باب الدباغة ، باب السلسلة ، باب السمطية، باب ادريس .

ونشير في دراستنا إلى جوانب من ملامح ومواقع هذه الأبواب التي كانت تلتقي عندها العائلات البيروتية، ومن خلالها تتم العمليات الاقتصادية والتجارية والمالية وهي من بداية السور حتى نهايته على النحو التالي :

(1)  باب يعقوب أو بوابة يعقوب : يقع هذا الباب من الجهة الجنوبية لبيروت القديمة على الطرف الشمالي لطلعة الأميركان شرقي السراي الكبير تجاه صيدلية نجا القريبة من سينما كابيتول فيما بعد، وقرب درج الأربعين. وكان هذا الباب يؤدي إلى ساحة السور، إلى ما عرف فيما بعد، بساحة السبيل الحميدي ومن ثم ساحة رياض الصلح. وسوق الدلالين وسوق النحاسين. وهناك رأي يشير إلى أن أحمد باشا الجزار هو الذي أقام هذا الباب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وينسب هذا الباب إلى أحد القاطنين بقربه ، وهو أما يعقوب الكسرواني أو الطبيب أبيلا ، قنصل انجلترا في صيدا المتوفى عام 1873م. وكان يقع بالطرف الشمالي من باب يعقوب جامع بوابة يعقوب أو جامع شيخ السربة، وكان يوجد أمامه السوق المعروف باسم سوق بوابة يعقوب، كما كان بمحاذاة زاوية الشيخ حسن الراعي، وجنينة خلف دكاكيـن البوابة.

(2)  باب الدركة: موقع هذا الباب كان قريباً ما بين سينما كابيتول وأول شارع المعرض من جهـة القبلة (الجنوب)، وكان يوجد بمحاذاته زاوية ومسجد الدركه. والدركاه لفظ فارسي تعني باب القصر أو الفندق ومن ملامحه حتى أواخر القرن التاسع عشر عبارة يونانية مثبتة على عتبة قديمة لباب الدركاه معناها "أيها الداخل بهذا الباب افتكر بالرحمة". وتشير المصادر التاريخية بأن القائد المصري إبراهيم باشا بن محمد علي باشا دخل مدينة بيروت عام 1831 من هذا الباب، وشق طريقه إلى السراي في موكب ضخم تظلله أقواس النصر ومعالم الزين والقباب .

(3)  باب السرايا (السراي) : أطلق على هذا الباب أيضاً باسم باب المصلى، وهو أحد أبواب بيروت الشهيرة والمميزة، ففي حين تقفل جميع أبواب بيروت عند المغرب، يستمر هذا الباب مفتوحاً إلى حين صلاة العشاء، باعتباره الباب الرسمي للمدينة. وقد سمي بهذا الإسم لمحاذاته لسراي الأمير فخر الدين التي تهدمت عام 1882 وكان موقعه قرب جامع الأمير منصور عساف قرب سوق سرسق، يحده من الغرب السراي، ومن الشرق الطريق المؤدي إلى محلة المدور التي كانت تعرف باسم مزرعة الصيفي، ويحده من الجنوب خان الوحوش، وسهلات البرج حيث تقع ساحة الشهداء أو البرج، وسينما أوبرا حيث كانت إسطبلات الأمير فخر الدين المعني. بقيت ملامح هذا الباب إلى أن هدمته السلطة الفرنسية عام 1927. وكانت قهوة علي الشيخ قريبة من السراي الصغير.

(4)  باب الدباغة : وقد سمي بهذا الإسم لوجود دباغة لدبغ الجلود بقربه، كما سمي الجامع المحاذي له جامع الدباغة (جامع أبو بكر الصديق فيما بعد). وكان موقعه في الجهة الشرقية لميناء بيروت، وكان يوجد أمامه دار على جانب البحر للأمير ناصر الدين التنوخي المتوفى 1350م . وكان يتفرع من باب الدباغة طريقاً فرعية تطل على سوق القطن وقد أطلق عليه زمن الانتداب الفرنسي شارع فوش. وكان هذا الباب أكثر أبواب المدينة ازدحاماً بالتجار لقربه من الميناء، تجنباً من اجتياز أسواق بيروت الضيقة، وكان أمام الباب المركز الخاص بتحصيل المكوس والضرائب المقررة على البضائع الصادرة والواردة .

(5) باب السلسلة: وموقعه قرب مرفأ بيروت شمالاً، وقد سمي بالسلسلة، لوجود سلسلة في المرفأ تؤمن للسفن الرسو بأمان وتمنع المراكب الصغيرة من الدخول والخروج . ووجد إزاء الباب أحد أبراج مدينة بيروت العاملة، وقد عرف باسم برج السلسلة. وكان الباب بين برجين: برج الفنار وبرج السلسلة. وقد ذكر هذا الباب صالح بن يحيي في كتابه " تاريخ بيروت". هذا وقد هدم هذا الباب إثر عاصفة هـوجــاء عام 1849 .

(6) باب السمطية: يقع هذا الباب من الجهة الشمالية لسور بيروت إزاء البحر، وقد وجد بالقرب منه وخارج سور بيروت مقبرة السمطية (الصمطية) الشهيرة، بالقرب من مقهى الحاج داوود التاريخية المندثرة في الطريق المؤدية إلى مرفأ بيروت. وقد سمي هذا الباب بالسمطية نسبة إلى السماط وهو جانب الطريق أو أرصفته حيث كان الباعة المسلمون يعرضون بضائعهم للبيع و الشراء .

(7) باب ادريس: وهو من أبواب بيروت القديمة المعروفة، يقع في الجهة الغربية للسور، وله مدخل داخلي يطل على خط الترامواي المستحدث في أوائل القرن العشرين، قريباً من سوق أياس. وقد سمي باب ادريس بهذا الإسم نسبة لعائلة ادريس المتوطنة في تلك المنطقة لاسيما المدعو بابي صالح ادريس. هدمت هذا الباب الشركة الفرنسية التي عهد إليها توسيع أسواق المدينة، وشق طريق بيروت دمشق وذلك عام 1860.

وكان يوجد باب ثامن، كان موقعه قريباً من سوق الخضار واللحوم والأسماك، سمي بباب أبي النصر نسبة إلى الشيخ أبو الوفاء عمر أبي النصر اليافي، غير أن هذا الباب ليس من أبواب بيروت القديمة ، إنما من مستحدثات القرن التاسع عشر .

ومما يلاحظ أن أسوار وأبواب بيروت اندثرت تباعاً منذ القرن التاسع عشر، ولم يبق منها سوى اسمها غير أنها استمرت قائمة في العهد المصري. ولا بد من الإشارة إلى أنه كان لهذه الأبواب أنظمة تحكمها، فقد كان على كل منها عين من أعيان المنطقة كان مسؤولاً عن وضع وأمن بابها، ومكلفاً بالإنفاق على مصباح معلق إلى جانب الباب الخارجي ينيره عند المغيب بعد أن يقفل الباب بمفتاح خاص كبير، يودعه عند متسلم بيروت حتى الصباح، وهكذا كل مساء وصباح. وكان حفاظ الأبواب من العائلات البيروتية المعروفة، ومن كان يتولى هذه المهمة يحرز شرفاً نظراً لأهميتها ومصداقية الحافظ. أما القوافل التي يصادف وصولها ليلاً إلى بيروت فتضطر إلى المبيت في ظاهر بيروت وخارجها : في الغلغول، في الصيفي، في البسطـة، في المصيطبة، في زقاق البلاط، في الباشوراء……… إلى أن تفتح أبواب بيروت صباحاً، فتدخل القوافل لممارسة نشاطها وتبضع حاجياتها، أو بيع حمولتها .

وفي عهد إبراهيم باشا (1831 – 1840) صدرت إرادة أكدت على وجود أبواب بيروت، وقد تضمنت ضرورة إقفال أبواب بيروت مساء لأسباب أمنية حفاظاً على أمن ومصالح سكانها. وقد أعلم القائد المصري القناصل الأجانب والسكان بذلك. وفيما يلي رسالته إلى القنصل الإنجليزي في بيروت يعلمه أسباب ومبررات تلك الإرادة:

" الجناب الأكرم، حضرة المحب الأجل المحترم قنسلوس بك دولة الإنكليز المحتشم حفظه الله تعالى. ليس خافي محبتكم الحال الواقع من ظهور خروج بعض أشقياء من رعايا جبل لبنان، كما هو المسموع والمحسوس بالقرب من هذه الناحية، ومن جراء ذلك رعايا بيروت من إسلام وذميين سِكنا البرية، متحسبين وعمال ينزلوا عفشهم إلى البلدة، والبعض نزلوا من محلاتهم إلى البلدة، فبحيث الحالة هذه وللمحافظة المأمورين بها، واحتراساً لأمر ما، اقتضى التنبيه بأن كافة البوابات تقفل آذان المغرب، وبالأذن يصير فتح بوابة السراي إلى حد العشاء فقط، وبعد آذان العشاء المتقدم شرحه، ما في رخصة لفتح البوابة كلياً، بل الذي يكون داخل البلدة يفضل بها، كما والذي خارج البلدة أيضاً. وحيث ذلك عايد لراحة الضمير، ولأجل المحافظة المأمورين بها اقتضى إفادة محبتكم بذلك وأنه تعالى يحفظكم " محافظ بيروت محمود نامي ميرمحمود .

2- الأبواب السبعة والعائلات السبع : الرؤية الاجتماعية والعائلية

إن غالبية العائلات البيروتية من العائلات المنسوبة ذات الأصول العربية العريقة، بل إن بعضها ينسب للنسب المحمدي الشريف ولآل البيت، وبعضهم من أحفاد العلماء والأئمة الكبار مثل الإمام الأوزاعي وسواه. وقد انتشر في بيروت مقولة راسخة في أذهان البيارتة ينبغي توضيحها، وهي أن بعض العائلات البيروتية هي من العائلات السبع. بمعنى أنها عائلة كريمة منسوبة تتميز عن سواها بالنسب والكيان، ومعنى ذلك أنه لا يوجد في بيروت عائلات مميزة سوى سبع عائلات، وهذا خطأ فادح وخطي. لذا فتوضيح هذا الأمر بات ضرورياً .

فمن المعروف أن البيارتة يكرمون الرقم (7) لوروده كثيراً في القرآن الكريم، لذا اختاروا سبعة أبواب لمدينتهم تفاؤلاً بهذا الرقم. وكان والي بيروت حريصاً على اختيار سبعة أفراد من وجهاء العائلات البيروتية ليسلمها زمام الأبواب السبعة من حراسة وحماية وإنارة. وكان في كل عام يسلم هذه الأبواب لأفراد جدد من عائلات أخرى. وكان في بعض الأحيان يجدد سنة ثانية أو ثالثة لأحد الوجهاء الذين أثبتوا مقدرة وعناية في حماية أحد أبواب بيروت. ومن خلال هذا التقليد نشأ عند البيارتة مقولة " العائلات السبع " وإن هذه ال