زحلة (عروس البقاع وجارة الوادي)          

التمثال البرونزي على مدخل المدينة لفتاة تحمل عنقود من الكرمة

 

زَحلة مدينة لبنانية تقع في البقاع بالجزء الأوسط من لبنان بالقرب من المجرى الأعلى لنهر الليطاني، على نهر البردوني، في جنوب غربي بعلبك، في المنطقة المعتدلة الدافئة 30 -40° شمال خط الاستواء، على مبعدة 48 كليومترًا إلى الشرق من بيروت.

إذا لم يكن في زحلة من الآثار القديمة الضخمة مثلما يوجد في جوارها ككرك نوح ونيحا وغيرهما فليس ذلك بناف عنها إنها مدينة قديمة عاصرت العبادات الوثنية الاولية وشاهدت الاساطير الخرافية. اما آثارها فانها درست لاسباب أهمها قلة الحجارة في هذا الوادي ومشارفه السفلى فاتخذت حجارة تلك الابنية للبيوت الحديثة وهكذا طمرت المدينة القديمة بزحل الأرض عليها من الاسناد والروابي ونحو ذلك من الفواعل الطبيعية ولا سيما الزلازل التي خرّبت بلادنا مرارا حتى في الأيام الأخيرة ولا يزال اسم سيدة الزلزلة في زحلة شاهدا على هذه المؤثرات وكذلك اسم (زحلة) . فضلا عن اجتياح الغزاة لهذه البقعة وتخريب هياكلها.

وإذا رجعنا إلى التواريخ القديمة واستقرينا أساطيرها وتقصينا في البحث عن العبادات نستشف من ورائها ما يدل على ان زحلة كانت من المدن التي احتفلت احتفالات وثنية وضحذت للمعبودات الخرافية . ولوجود نهر غزير المياه فيها والهياكل كانت تبنى على ضفاف الانهار وقرب الينابيع كما هو الحال في معظمها إن لم نقل في كلها بلا استثناء .

وكثرة كرومها التي اتخذت خمورها لاحتفالات ديونيس أو باخوس .ولقد اعتقد كثير من المؤرخين القدماء ان احدى الجنان الارضية في هذا السهل الافيح بين الجبلين لبنان الغربي والشرقي (انتيلبنان) ولذلك كثرت فيه مدافن الاجداد الاولين مثل نوح و شيت وهابيل وقايين ويوشع وايليا وغيرهم من الأولياء والانبياء .

ان الدويهي كبير مؤرخي الطائفة المارونية قال :"ولما طرد من الفردوس آدم سكن جبل حرمون "الشيخ" وسكن اولاده شرقي الفردوس في البقعة وبنوا قلعة بعلبك واستنبطوا الطبول والزمور وكانوا قوما جبابرة وتدل على ذلك مدافن هابيل وقايين وشيت التي هي بالقرب منها ".

 

وروى الاب بطرس اليسوعي ان الاب بلنشه اليسوعي سمع السيد اغناطيوس العجوري مطران زحلة الكاثوليكي يقول: ان ابرشية زحلة تسمى بابرشية الفردوس لا لأن بعض التقليدات القديمة تعيّن القردوس الارضي في هذه الامكنة

وان قبر نوح هو في الكرك بضواحي زحلة .

وقال ابن حوقل من مؤرخي المسلمين ان قبر حبلة ابنة نوح على مقربة من قرية عرجموش (قرب الفيضة) .ولا خفاء ان اقدم من سكن هذه الجهات هو الآراميون المنتسبون الى آرام بن سام بن نوح وبقيت سلائلهم ردحا طويلا مستعمرة هذه السهول الخصيبة قاطنة سفوحها الكثيرة ورباها البديعة وجبالها الظليلة فنشروا فيها عباداتهم الوثنية التي عمّت جميع أقطار سورية ومصر وما يجاورهما . ويقال ان اول معبود وثني اقامه الاشوريون تمثال الجبار نمرود على الارجح وكان اسمه الباعل او البعل اوالبعليم ومعناه الرب أو المتسلط وعرف باسم المشتري "جوبيتر"والشمس فشاعت عبادته واقيم له أعظم هيكل في مدينة بعلبك لن تزال اطلاله افخم الاثار القديمة وأضخمها وأتقنها صنعة وأدقها نقشا وكان ذلك بعد الطوفان بنحو ثلاثمائة سنة 

ومصغرات ذلك الهيكل هي في جوار زحلة في قرية حوشبيه ونيحا فلا يبعد اذن انه كان في زحلة او مشارفها هيكل قديم لهذا المعبود .هذا ما رأيته في تسمية المدينة ارباضها مما يدل على قدمها بقي ان ما فيها من المغاور في الصخور قرب نزل "لوكندة" الصحة الى غربيها التي يسميها العامة الطوق وبها سمي دير النبي الياس يدل على سكن الانسان قديما فيها في طور الظران اي الطور الحجري لان لبنان كان فيه اناس يسكنون مغاوره الكثيرة الطبيعية وذكر يشوع بن نون "4:13" مغاور الصيدونيين والمراد بها مغاور نيحا .وهناك قبالة نزل الصحة غرفة منقورة في الصخر مربعة تدل على انها كانت هيكلا صغيرا ونحوه .وفوقها مغاور قديمة منحوتة في الصخور كانت مدافن للموتى ذات حنايا واضرحة منقورة في الصخر وهي مقابل المغاور المسماة بالطوق .


وفي المدينة كثير منها ولا سيما في صخر هو كالنطاق لتلة المشيرفة التي هي أكمة خرماء "لها جانب لا يمكن الصعود فيه" وقد ظهرت مؤخرا فيه مغارة قديمة شاهدتها : ان في ذلك النطاق الصخري في سفح المشيرفة مغاور كثيرة قريبا.

بعضها من بعض كما يظهر للمتأمل على علو اكثر من الف واربعمائة متر عن البحر وعلى بعد نصف ساعة عن المدينة ولم يحتفر منها المغارة اهتدى محتفرهاالى معرفتها بكثرة الارانب التي كانت قد اتخذتها مخزة "المخزة بيت الارنب" فانتبه بعد مراقبتها مرارا الى ان ثم مغارة اتخذتها الارانب مأوى لها فاحتفر الفتحة الصخرية التي تبلغ حوالي ثلاثة امتار  وهي مدخل الى باب المغارة الحجري وغلقه أيضاً من حجر وطوله نحو ثمانين سنتيمترا بعرض 70 والغلق الحجري مركز على نجرانين اي محورين حديديين في أعلاه واسفله لفتحه واغلاقه بسهولة وهو ضخم ابيض اللون قد نزع من محله وفيه ثقب مستطيل يدل على انه اتخذ لوضع شيئ فيه احكاما لسده وتوثيقا لاغلاقه وقي جانب الباب المقابل لمحل المحورين ثقب يقابله. وفي داخل المغارة ثمانية نواويس منقورة في ارض المغارة الصخرية اثنان منها على جانبي الداخل وخمسة في وسطها متناسبة الوضع وناووس في اقصاها. وهناك نواتئ صخرية تمثل رفوفا وجدت عليها سرج من فخار منقوش مستديرة او بيضية الشكل مستطيلته وقياس كل قبر منها نحو ثمانية اشبار طولا واكثر من اثنين عرضا ونحو شبرين عمقا. وعلو سمك "سقف" المغارة عن سطح النواويس نحو ثمانين سنتيمترا فقط بحيث لا يستطيع الداخل ان ينتصب وطول هذه المغارة من الشرق الى الغرب نحو عشرين شبرا في عرض مثلها. وهي منحوتة في صخر ابيض رخو يعرف بالحجر السكري ولها حنايا "قناطر" فوق القبور كلها منحوتة .ووجد في هذه النواويس عظام نخرة بعضها كبير والاخر صغير . وفوق الباب وجدت كوة غير نافذة .ولو تقصى الباحثون في حفر هذا النطاق وغيره لعثروا على اشياء كثيرة ترشد المؤرخ لحالة المدينة القديمة.والمرويّ على ألسنة الشيوخ الى عهدنا ان تحت معقل المشيرة نفقا 
"
سردابا" على مسافة ميل يصل الى مياه البردوني كان المحاصرون يستقون منه في ايام الحروب . ويسمون هذه الاطلال " سور المشيرفة " لان زحلة لما جدد بناؤها كانت آثار السور باقية فنسبوها اليه.

وقد وجدت هناك قطع نقود قديمة رأيت بعضها وعليها النسر الروماني الذي هو شارتهم وعلى وجه آخر صورة واسم ادريانوس اوغسطوس الذي ولد سنة 76م وتبوأ العرش الروماني من سنة 117_138م ويقال انه هو الذي ابتنى قلعة نيحا وبعض هياكل في بعلبك وغيرهما فلعله جدد قلعة المشيرفة ايضا . وكذلك في بدء السنة الحالية (1911م) في حضيض هذه التلة الشرقية وراء
دير النبي الياس (الطوق) فوجدوا آثار معاصر زبت ومعصارا "مكبسا" حجريا ابيض كبير. وبينما احدهم يقلب حجرا من الارض التي كان ينقبها وجد تحته اكثر من ستمائة قطعة من النقود الشبيهة (البرونزية) فرأيت بعضها وعليها اسم قسطنطين اول ملك مسيحي من الرومانيين تبوّأ العرش من سنة 306_337م ومن سنة 313م نادى في مملكته شرقا وغربا بحرية الديانة المسيحية وشيّد كثيرا من الكنائس والمعابد معظمها حوّله من الهياكل الوثنية ولن يزال الى يومنا ولعله بنى في زحلة معبدا باسم النبي الياس المشهور في هذه الجهة ومما يدل عليه بر الياس وقب الياس والنبي ايلا.ومن الاثار التي ظهرت في الوادي والبساتين وتل شيحا وعلّين نواويس رصاصية على اغطيتها صور اشخاص بديعة ونواويس حجرية مفردة مسنمة الاغطية على بعضها نقوش بسيطة وفوق قصر (سراي) الحكومة في محلة البيادر على مشارف التلة الجنوبية وجد كثير منها قريب بعضه من بعض يدل على انه كان مقبرة. ووجد في بعض هذه النواويس رمم هياكل بشرية وعلى بعضها رق ذهبي يغطي الوجه وشنف أي حلقة من حجر بديعة الصنع رماها احد الفعلة فانكسرت ومما يؤسف له ان الذي ظهرت له هذه النواويس لم يحافظ عليها بل كسرها وباعها حجارة والرصاصية أذابها فهكذا تلفت آثار المدينة القديمة حتى كاد تاريخها يطمس ذكرا.

وقد وجدت مدافن محفورة في الارض مبنية بالحجارة في انحاء المدينة منها ضريح عليه قبرية (بلاط يكتب عليه اسم الميت وتاريخ وفاته) بتاريخ سنة 200هـ (815م) وفي الضيعة اي حارة دير النبي الياس للرهبنة المخلصية في وسط المدينة قرب قصر الحكومة توجد مقابر تحت البيوت الحالية.

وظهرت في انحاء المدينة آثار حرائق ومخازن في بعضها آثار صياغة وابنية نقشت بالفسيساء . وقنوات للمياه ذات انانيب (قساطل) خزفية متينة ضخمة تدل على توزيع المياه في المدينة القديمة .وحنايا تحت الارض او اقبية منها سرب في بيت يوسف جحى متجه الى الغرب يستطيع الانسان ان يدخله منتصبا ولا آخر له ولا منفذ.

ووجد في القديم تمثال حجري لاحد الاصنام وربما كان لزحل. وظهر في تل شيحا تمثال خروف منخزف وآنية خزفية بديعة. وفي حضيض وادي البردوني الجنوبي قرب عين البخاش ومقابل محلة الطوق سرب مسمَى مغارة الرصد يتَجه الى الشرق حتَى يقابل دير النبي الياس الطوق ولا منفذ له. وكذلك في علّين وتل شيحا آثار خزف قديمة وآبار واساسات متينة الحجارة وخزف بديع وفي المشيرفة آثار خزف منقوش بديع الالوان متقن الصقل.

وظهرت آثار آبار قديمة بعضها مربع والاخر مستدير وهي من القصرملّ اي الرمل والحصى والكلسي . وكذلك خواتم من حجر المرمر عليها نقوش اشخاص بديعة. وكان فيها جسر عظيم الحجارة متين البناء ربما كان رومانيا أو من زمن الصليبيين محل الجسر عظيم الحارة السفلى (التحتا) فهدمته السيول سنة 1815م وجدد بناؤه بقنطرة واطئة فهدم ثانية وتجدد ستة 1822م.

واذا أرسلنا نظرة اخرى الى جهة ثانية من التاريخ القديم نجد ان عبادة ديونيس اله الخمر كانت منتشرة في دمشق وضواحي سورية المجوفة حتى كثرت الهياكل لهذا الاله الخمري وتغالى السكان بغرس الكرمة احتفاءً به فكان لزحلة وضواحيها نصيب كبير من هذه الحفلات الشائعة بلا ريب.ففي الصفة أو المشيرفة وعين الدوق وعلّين وكرك نوح وعرجموس وترحين وبحوشه وقمل وبلوده وكسارة والتويتة والرمثانية وبوارش ادلة واضحة على قدم زحلة ومعاصرتها لما يجاورها من الاماكن القديمة مثل عين الجروماسة ونيحا وقصرنبا والفرزل وجديتا وقب الياس ومندرة اليونانية الاسم وغيرها. وبقي اسم نهر البردوني فربما كان تصغير بردى على القاعدة السريانية مثل اليموني تصغير اليم بمعنى البحر ومعنى بردى البارد أو الفردوس. وفي هذا  الاسم دليل على قدم المدينة ايضا وشؤونها التاريخية . وفي سهل بعلبك مقابل المدينة قريتان احداهما تسمى حوش الذهب والثانية حوش بردى وهما من اسماء نهر بردى الدمشقي الذي يسمى مجرى الذهب . ولعل في هذه التسمية سرا يكشفه البحث أوهي من الكلمة الفارسية (بردن) بمعنى الاشتداد في العدو وفيه اشارة الى سرعة جري النهر لانحدار مجراه ولاسيما قبل وصوله الى زحلة.