ذكريات عن رمضان زمن الآباء والأجداد

 

 تعود بي الذكرى إلى الماضي الجميل = زمن  طفولتي وفتّوتي = حيث كان للأيام معنى وطعم وراحة. كانت النفوس الطيبة المؤمنة تنتظر بلهفة وشوق حقيقي { رمضان } شهر المواسم من تعبّد وزهد وطلب التوبة والمغفرة، وتحولهم عن دورة حياتهم الرتيبة.

وتعمر الأسواق المتصلة ببعض في المدينة القديمة بمتطلبات القادم المبارك. فسوق القطايف شمالي جامع النويرة قرب الحمام الصغير {خلف البرلمان اليوم} مستنفر لتلبية حاجات البيارتة قطائف ذات حجم كبير للصواني تحشى بالجوز أو بالقشطة يحلم بها الذواقة بعد الإفطار.

وسوق أبو النصر { ما زال بقية من المعمرين يذكرونه جيداً } تتكدس فيه البضائع عند أبو شلش وقرانوح تجّار الفستق والصنوبر واللوز والزبيب لصنع الحلويات والخشاف الشراب الصحي المغذي اللذيذ.

والكوش ملك الجلاب غير المنازع الكائن تجاه العازارية أول درج الأربعين ينظّف الحلل الفضيّة والأواني النحاسية اللامعة ومجمرات البخور الذي كان يعطّر فيه الشراب.

نعم هكذا كان يصنع الجلاب الحقيقي الفاخر، الشراب اللذيذ المغذي والمزيّن بالصنوبر وبرش الثلج، فيختلط دخان البخور من المجامر المحيطة بأوعية الجلاب أو تحريكه فيعطي نكهة ولا أطيب، رحم الله الكوش وبيارتة ذلك الزمان.

أراني أذكركم أشياء لا يعرفها الكثير ممن يقرؤون هذه الذكريات ولكنها حقيقة لأناس كانوا هم عماد حياة ذلك الشهر ومعالمه البارزة.

أما { حلو } رمضان وهو مميز فكان من بقلاوة الحدف { بقلاوة بيروتيّة } مستحدثة والتمرية المحمصة المغمورة بالقطر والمقروطة { المفروتة في تونس } المعجونة بالسمن الحموي والعجوة الفاخرة، ثم الكلاج الأستمبولي فالعثملية وصينية القطائف ، ما ألذ هذا الرمضان العظيم دين ودنيا ، عبادة وتفكه.

أما { المبشِّر } الجائم على مدخل سوق الإفرنج بباب إدريس يؤمن لنا خبز رمضان " خبز ماوي" ذو الرائحة المميزة والطعم الفاخر المحمّر السريع الهضم. وقد زال هذا النوع من الخبز الطيب بوفاة صاحب الفرن أبو المبشِّر ولم أعد أذكر أسمه الأول.

أما صحن الحمص المتبل فهو ملك المائدة وكم تفنّن في صنعه فوالة ذلك الزمن وأشهرهم أبو محمد الصيداني برأس المعرض، وأبو محمد الشماس في البسطة الفوقا مقابل مخفر الشرطة ومواجهة لمستشفى صبحي الطيَّارة، الأبيض اللون لِحُسن كسرة الطحينة بالحامض والمزيّن بالبقدونس الأخضر مع رشة فول مدمس. ويصبح لذّة للناظر قبل الأكل. وكان أهل بيروت يتبادلون صحون الطبخ وصواني الطواجن وجاطات الفتوش {الزريقة} بلغة البيارتة، فتكون كل سفرة غنية بتنوع المآكل وتقوى روابط المحبة والمودة بين الناس وهو أرقى أنواع التواصل.

بعد الإفطار تبدأ طقوس رمضان إن صحّ التعبير الديني والدنيوية، أما الدينية فبالمساجد المضأة بالإنارة الكافية والفوانيس البيضاء والحمرا تُرفع على سواري المأذن الأبيض للسماح والأحمر فجراً للإمساك، لمن لا يسمع صوت المدفع ولم يكن عنده ساعة منبه، يطفي أن ينظر إلى أعلى سارية المسجد ليعرف أن الإمساك حلّ برفع الفانوس الأحمر.

ويصعد الفتيان أمثالي مع الشيخ أحمد القوّاص إلى مئذنة جامع الزيدانية لنردد معه مقاطع من موشحات دينية أو الموالد التي كانت تقرأ في المآذن أو موشحات وداع رمضان في الأسبوع الأخير منه. سبحان الله كم كانت المساجد مرتبطة بحياة الناس يومئذ.

ويستضيف وجهاء بيروت كبار المقرئين المعروفين لتلاوة القرآن في مساجد ونوادي المدينة، فقد أستضاف في خمسينات القرن الماضي الوجيه درويش بيضون المقرئ المشهور آنئذ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في مسجد علم الشرق بالأشرفية وشاهدت بعيني أهل الأشرفية مسلمين ومسيحيين متجمّدين من مقهى الناصرة حتى الجامع، المسلمون يخشعون ويهللون، والمسيحيين في نشوة جمال الصوت ومعاني القرآن الكريم، كما أن الرجل المعروف محمود العيتاني أستضاف ولسنوات عدة كبير المقرئين الشيخ مصطفى إسماعيل على نفقته وضيافته، ولا عجب فالبيارتة وخاصة آل بيهم العيتاني أستضافوا في القرن التاسع عشر الشيخ سلامة حجازي لتلاوة المولد عند إفتتاح جامع عين المريسة. وتقام الدروس الدينية والمواعظ في المساجد بعد صلاة العِشاء ومن أهم حلقات الدروس كان يقيمها الشيخ رضا القبّاني في الجامع العمري الكبير، وكان رحمة الله مهيباً جميل الوجه وذو صوت جهوري بلهجة بيروتية قحة لا تخطئها الأذن، وعندما كان يحتذى مناقشاته مع أحد المستمعين الثقلأ الجهلة " يزأر " بصوت جهوري مواجهاً كلامه لذلك " اللكع " : أنا الشيخ رضا الأسد ، لا أخاف من أحد، فيعم السكون ويعود الأستاذ لإكمال درسه ومواعظه.

مدفع رمضان موقعه على تلة السرايا تحت الساعة، وكان الجندي المُكلّف بإطلاقه يأتمر بموظف تعيّنه مديرية الأوقاف وهو رجل {أفندي} أي يلبس الملابس الإفرنجيّة بباته بيضاء منشاية وطربوش خمري طويل يحمل ساعة " كستك " بسلسلة ذهبيّة. وكان من آل الزغلول العائلة البيروتية من أصول مصرية يقف بقامته الطويلة وبيده ساعته ينظر إليها بعين وإلى الجندي بعينه الأخرى ليعطي إشارة الإطلاق وقد امتدت قامته وأرتفع رأسه كأنه نابليون في أوسّترليز يقود المدفعيّة، رحم الله الزغلول وكل أهلنا من ذلك الزمن، كم كنت أحبه وأعجب بشخصه وأناقته التي كان يحرص عليها احتراماً للمهمة المُكلّف بها وارتباطها بشعيرة بشعائر الدين " الصيام " .

كما تفتح التكايا الصوفيّة وتجهّز أدواتها لإحياء الذكر فالطريقة الرفاعيّة والجيلانيّة والنقشبنديّة وكالشيخ جميل المدقة الحسني يحيي ليالي الذكر في زاويته المشهورة في البسطة التحتا تجاه الباشورة.

وكان رحمه الله جميل الطلعة أنيق اللباس وعمامته الخضراء تزين رأسه تترنح مع أهتزاز رأسه على نقر الدفوف وصوت المزاهر وحوله المريدون يرددون الله الله، هم أهل الذكر والحُب الإلهي والوجد الرباني فيأخذهم الحال إلى أجواء الصفاء الروحي ويعيشون مع الله بإيمان عميق يرفعهم منه الحال إلى حال ولي الذكر يات ووقائع مذهلة رأيتها لا مجال لذكرها في هذه الكلمة.

بيروت المحروسة مدينة الآباء والأجداد. مدينة المآذن والمساجد؟ هي مدينتنا التي أذكرها بخيالي و وجداني ذكريات حيّة نابضة ليتها تعود.

وعذراً للإطالة فحديث رمضان بيروت بحاجة إلى مجلاّت وليس هنا مجالها.

العميد المتقاعد مختار عيتاني

* يمكن العودة إلى موضوع رمضان مع الدكتور حسَّان حلاق في هذا الموقع

{أنقر هنا لتصفحه}