آل الجميّل

من الأُسر الإسلامية البيروتية واللبنانية والعربية، تعود بجذورها إلى قبيلة الجميل في شبه الجزيرة العربية، ولها انتشار في المملكة العربية السعودية، لا سيما نجد، سواحل الكويت والبحرين وضفافا الفرات ودجلة وفي سوريا، لا سيما تدمر والسخنة، كما أسهمت فروع هذه القبيلة في فتوحات مصر وبلاد الشام، علماً أن القزويني في كتابه يعتبر أن آل جميل هم بطن من بني الحسناء في العراق، ويقسم «معجم قبائل العرب» قبائل الجميل إلى عدة فروع موزعة في محافظة حلب ونجد والحجاز والعراق والقصيم واليمن، وهي قحطانية تنقسم إلى عدة فروع، منها: العشاف، الزيادة، بو عزام، بو دياب، بو سهيل، والنجمات والعيّان وسواها.

ولا بد من الإشارة إلى ان العهد العثماني شهد بعض فروع من آل الجميل في مصر والأردن وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان، كما أن فرعاً من آل الجميل في بيروت كان يُعرف منذ عقود قليلة باسم «الجميل المصري»، وقد قام أحد أجداد الأسرة بمعاملة قانونية فألغى لقب المصري واحتفظ باسم «الجميل»، وهي اليوم أسرة بيروتية من أصل مصري معروفة في بيروت المحروسة.

عرفت بيروت منذ العهد العثماني إلى بداية الحداث اللبنانية عام (1975م) سوقاً عُرف باسم «سوق الجميل»، وقد برز من السرة حديثاً السادة: الدكتور محمد محيي الدين الجميل رئيس جمعية آل الجميل، هاني الجميل نائب الرئيس، ورئيس جمعية تجار كورنيش المزرعة ومتفرعاته، وأعضاء الجمعية السادة: عفيفة الجميل، وليد احمد الجميل، الأستاذ خليل محيي الدين الجميل المدير السابق لثانوية رمل الظريف الرسمية. كما عرف من السرة السادة: رجل الأعمال إبراهيم، أحمد، جميل، حسين، روحي أحمد، رؤوف عفيف، طارق منير، عارف محمد خير، عماد الدين، ماهر، محمد حسين، محمد راجي عفيف، محمد عادل، محمد علي، محمد فخري، محمد مهيب، محمد يوسف، محيي الدين محمد، منير راجي، منير محمد، وجيه، يوسف عادل، يوسف عبد اللطيف الجميل. كما شهدت بيروت أسرة مسيحية باسم جميل، عُرف منها السيد بطرس يوسف جميل، وحبيب أديب جميل وسواهما.\

يتّفق المؤرخون على ان الجذور التاريخية القريبة لآل الجميّل تعود الى بلدة جاج في شمالي لبنان. واما الجذور البعيدة، فيعيدها بعضهم الى «قرية يحفوفا قرب الشام»، ومنهم من يقول ان اصل الاسرة من القدس، نزح بعض ابنائها الى صيدا، ومنها الى جاج، وان جميّل وشباط من جذر عائلي واحد «نزح ابناء جميّل الى بكفيا سنة 5451، وابناء شباط الى عرمون كسروان، ومن هذه العائلة في كثير من القرى اللبنانية، وكلّهم من اصل واحد، منها صيدا والدامور، وهم فيها بيت الخوري مارون من جبّ مسلّم الذي هو في بكفيا».

وفي العام 5451، وبعد ان ساءت العلاقات بين حاكم مقاطعة كسروان الامير منصور العسّافي وبين الشّيعيين، ارتأى ان يقرّب اليه المسيحيين لتوطيد حكمه، «فجاء اليه اولاد الجميل وقابلوه في غزير مركز إقامته، وكان مجيئهم من قرية جاج... وحينما امتثلوا لديه اكرمهم واقطعهم على بكفيا وضواحيها الشمالية، واوفدهم فورا اليها ليحيوا اراضيها ويجدّدوا حضارتها التي كان جيش المماليك قد قضى عليها في غرّة القرن الرابع عشر، فأتوا وبعض رفاق لهم حاملين، كما يروى عنهم، صورة القدّيس عبدا على اكتافهم، واستحسنوا ان ينزلوا في مكان بلدتهم الحالي العالي، عوضا عن المكان القديم المنخفض، ولا يزالون فيه الى يومنا هذا...»

واتّحد ابناء جميل مع العائلات التي تزامن وصولها الى كسروان معهم، واقاموا معها افضل العلاقات، ومهّدوا لانتقال النصارى من الشمال الى قلب لبنان، ومن هذه العائلات: المعلوف، الخازن، كميد، الخرّاط، وداغر، وغيرها...

تعود مشيخة هذه الاسرة الى القرن السّابع عشر، وذلك بحسب اعتقاد بعض المؤرخين، الذي يشير الى ان الامير فخر الدين المعني الثاني، هو الذي منحهم هذا اللقب. كما ان الثّابت تاريخيا، هو ان الامير حيدر الشهابي شيّخهم واقطعهم منطقة بكفيا بعد موقعة عين دارا عام 1171، هم وغيرهم من زعماء جي000وشه الذين احرزوا له النصر في تلك الموقعة، ولربما يكون الامير الشهابي قد رسّخ لهم على الاصحّ هذا اللقب الممنوح لهم من قبل وثبّتهم في اقطاعهم القديم. ولكن، وفي كل حال، فقد شهد مؤرخون وباحثون لهذه الاسرة بالمزايا الحميدة والمستوى النبيل بين عائلات لبنان العريقة، «فلم يذكر عنهم تطرّف في القوة، مما يعاب على اصحاب الاقطاعات»، وكان لهم على مدى اربعة قرون ادوار بارزة ومواقع متقدّمة، «فبكدّهم وثباتهم ونبوغ بعض افرادهم بلغوا مقاما خاصا لامعا في الوطن، فلقّبوا مشايخ من زمن بعيد لما ظهر منهم من رجال في الادارة والرأي والكرم والفروسية والغيرة والبساطة».

وقد بقي «منزول» العائلة موجودا الى الثلاثينات من هذا القرن، وكان مفتوحا «طالما لم يكن فنادق وخانات، ولم تبطل فيه الضيّافة، الابعد ان نزعت تركيا القوة من عيال لبنان الكبيرة كل املاكها في البقاع»، وذلك لانضمام هذه الاسر الى ابرهيم باشا المصري عام 0481 ضدّ العثمانيين، ومنها اسرة الجميل.

وربطت علاقات نسب ومصاهرة آل الجميل بعائلات الخازن، حبيش، الدّهان، يارد، طربيه، الدحداح، بليبل، إده، والخوري (رشميا)...وانتشرت العائلة الجميلية تاريخيا من بكفيا مركزها الاساس، بعد ان تكاثر ابناؤها واتّسعت املاكهم، في شويّا، عين التفاحة، وادي شاهين، عين الخروّبة، السفيلي، عجلتون، دلبتا، سمار جبيل، القبيات (ويعرفون فيها ببيت الزريبي)، غسطا، الزغرين، بيروت، الميّاسة، عين الزيتونة، دير شمرا، ابي ميزان، مزرعة الجميّل (جبيل)، الجميلية (صيدا)، سرعين التحتا (البقاع)، رياق، فتري (جبيل) بشللي (جبيل)، دير الاحمر وكساره (البقاع)، وفي بلدة ادونيس، وغيرها من المناطق اللبنانية.

كما انتشر آل الجميل في بلدان الاغتراب اللبناني، وفي الدول العربية، فأقام بعضهم في دمشق (هم فيها من الطائفة المحمّدية السنيّة)، حماه، حلب، تدمر، المنصورة والاسكندرية (في مصر)، هيوستن تكساس (الولايات المتحدة الاميركية)، مانيلا (الفيليبين) وغيرها...

وكسائر الاسر اللبنانية، تعدّدت فروع الاسرة الجميلية في مناطق انتشارها، ومن هذه الفروع: ابي جميّل والشدياق (وهما من جدّ واحد هو ابو مطر الجميّل)، وداغر، وغيرها من فروع هذه الدّوحة التي برز من ابنائها، كثيرون منذ عهد الإمارة الى عصرنا الحاضر.

اوّل مشاهير الاسرة التاريخيين في شؤون الادارة والحكم، كان ابو عون الجميّل مقدّم الجبة عام 1461، وابو عماد الجميّل، الذي تحدث عنه المؤرّخ الدويهي فقال: «ان الشيّخ ابا عماد بن الجميّل في سنة 2361 هدم كنيسة مار عبدا وجدّدها بمساعدة اهل بكفيا، وعقدها قبوا بثلاثة اقسام على يد المعلّم حنّا الشامي».

ومنذ اواخر القرن السابع عشر حتى اوائل القرن التاسع عشر، كانت للمشايخ الجميليين فاضل وطليع ودرويش ادوار ادارية مهمّة لدى امراء المتين وصليما اللّمعيين، وشهدت بكفيا في عهد الشيّخ درويش ازدهارا تجاريا كبيرا، وخاصة في الاقمشة والزّيت والصابون والقطران والتبغ، حيث كان البكفاويون يطوفون في ارجاء البلاد حتى حدود فلسطين، والدّاخل السوري والسواحل لبيع انتاجهم...

وخلال النّصف الاول من القرن التاسع عشر، اشتهر من ابناء العائلة الشيخ يوسف بن طليع الجميّل، ثمّ برز في ميدان التجارة الشيّخ ابرهيم الجميل ابو كنج وآخرون...

وشهدت حقبة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دور الشيخ حردان بن منذر الجميّل الذي والى ابرهيم باشا المصري ضد الاتراك، فنعمت بكفيا بمساعدة الفاتح المصري في تلك الفترة، في حين احرقت جارتها بيت شباب لتفضيلها الحكم التركي...

واما الفترة التي بدأت بانتصار العثمانيين على ابرهيم باشا ورحيل المصريين من لبنان، فقد اعتبرت منعطفا تاريخيا في حياة العائلة السياسية، حيث ابتعد ابناؤها عن شؤون الحكم والادارة، او ابعدوا عن ذلك، لانحيازهم الى الباشا المصري في مواجهة الاتراك، ثمّ احجموا طوعا عن المشاركة في السلطة السياسية بعد ذلك «لكثرة التقلّبات وشدّة التنازع على الوظائف، وما صار عليه اكثر اربابها من صلف وانانية واستبداد، مع تطلّب لخنوع وتذلّل، كخنوع الموظّفين وتذللهم لرؤسائهم».

وانتشار الرشوة وشراء الوظائف بالمال، وخاصة في عصر المتصرّف واصا باشا وصهره كوبليان. ففي تلك الفترة استقال بشير الجميّل حفيد طليع الجميل المعروف بأبي علي من وظيفة طبيب الحكومة، وانصرف الى ممارسة رسالته الطبيّة، ثم لعب دورا وطنيا في اواخر القرن الماضي في عهد المتصرّف رستم باشا الذي عمد الى فرض تدابير، اعتبرها زعماء البلاد تشكل خطرا على استقلال جبل لبنان.

وفي الربع الثالث من القرن التاسع عشر، كان لجرجس ميخائيل درويش الجميل دور انساني، حيث قتل نظرا لمناهضته المذابح الطائفية في ثورة «عرابي باشا»، اذ كان الشيخ جرجس ترجمانا لقنصلاتو فرنسا في الإسكندرية في ذلك الحين.

وخلال النصف الاول من القرن العشرين، لعب الحكيم امين بشير الجميّل دورا بارزا في شؤون الصحة والتنمية، كما عرضت عليه في عهدي جورج بيكو والقومندان ترابو حاكمي لبنان آنذاك، مديرية الصّحة فرفضها. وقد اوفدته الجهات المختصة رسميا في العام 0391 الى مصر لتشجيع اهلها على الاصطياف في لبنان، وكان لشقيقه الشيخ يوسف في تلك الحقبة ايضا دور وطني فاعل من خلال مشاركته في الوفود اللبنانية الى باريس ما بين العام 9191 والعام 1291.

وفي الفترة الانتقالية المفصلية ما بين اواخر الاحتلال التركي ومطلع الانتداب الفرنسي تبوّأ انطون بك الجميّل منصب الامين العام لحزب الاتحاد اللبناني «حزب احزاب الحركة الوطنية»، فجاهد من خلال موقعه هذا، لوضع لبنان المستقل بكيانه الخاص بعيدا عن مشاريع التبعيّة الفرنسية، او الإلحاق بالمملكة العربية، التي كانت مطروحة وبقوّة في تلك الفترة. كما جاهد من مصر المحرّرة من نير الحكم التركي، مع يوسف السودا وداود بركات وحيدر المعلوف وسعيد سماحة واسكندر عمّون ومحمّد تلحوق وحبيب يزبك وغيرهم من الوطنيين، ومن خلال توجّه وطني غير طائفي، لمحاربة الانضمام الى السلطنة العثمانية وسقوط لبنان في حكمها المباشر. وفي الثلاثينات من هذا القرن تولى انطون الجميل رئاسة تحرير جريدة الاهرام كما كان ايضا عضوا في مجلس الشيوخ المصري.

وفي المرحلة الاستقلالية، كان للشيّخ بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، نشاط سياسي، ترك اثره الكبير في وقائع ومجريات واحداث تاريخ لبنان المعاصر، حيث وصل نجلاه بشير وامين الى سدّة الرئاسة الاولى. فماذا عن تاريخ هذه العائلة، التي اعطت الى جانب المشاهير الزمنيين، رجال دين كبار؟

تعود الجذور التاريخية لآل الجميل على الأرجح، الى قرية يحفوفا قرب الشام «ومنهم من يقول ان أصلهم من القدس، ثم اتوا صيدا، ومنها الى جاج». وأن جميّل وشباط أخوان، «نزح أبناء جميّل الى بكفيا سنة 5451، وأبناء شباط الى عرمون كسروان، ومن هذه العائلة في كثير من القرى اللبنانية، وكلهم من أصل واحد، منها صيدا والدامور، وهم فيها بيت الخوري مارون من جبّ مسلّم الذي هو في بكفيا».

وقبل الغوص في تفاصيل نزوح آل الجميل الذي هم «من أقدم سكان جاج الى بكفيا في أواسط القرن السادس عشر»، لا بد من الاشارة الى «ان سكان كسروان القديم الذي كان يضم المتن وجواره، قد ناصروا الصليبيين الذين دام بقاؤهم في هذه البلاد من العام 8901 حتى العام 1921، وعندما انسحب الصليبيون من هذه الاراضي، استضعف العرب سكان كسروان، فجرّد عليهم المماليك أولى حملاتهم الانتقامية بقيادة الأمير بيدرا في العام 2921، غير ان هذه الجبال الوعرة قد استعصت على جنود المماليك، الذين عاودوا الكرة في العام 3921، فقتل قائدهم وذبح معظم جنودهم. وفي العام 5031، وكانت قد اوغرت انتصارات المردة صدور المماليك حقداً، حشد هؤلاء جيشاً جرارا قوامه خمسون الف مقاتل، هاجم كسروان بقيادة أقوش الأفرم، فدمّر القرى وأحرق المعابد وقطع الأشجار، وأزال كل أثر للعمران وقتل من قبضت عليه أيادي جنوده. ولم ينج من هؤلاء السكان سوى القليل، تشتت هائماً بين جبال شمال لبنان العاصية.. وهكذا أصبحت بكفيا وجوارها خالية من السكان والعمران حتى القرن السادس عشر».

وفي هذه الفترة، كانت بلاد الشمال اللبناني رازحة تحت حكم إقطاعي تولاّه المماليك التركمان الذين عرفوا بالعسّافيين، «وكانت مهمة هؤلاء المحافظة على الشواطىء البحرية لمنع الافرنج وسكان البلاد القدماء من دخولها. فأقام العسافيون في الازواق المسماة بأسماء مقدميهم، ثم انتقلوا الى غزير».

وإبان حكم الأمراء العسافيين مقاطعة كسروان وما اليها بما فيه قاطع بكفيا وبيت شباب ومزارعهما، وفي عهد الامير منصور العسّافي، كان الأمن قد انتشر في تلك النواحي، فأخذ بعض أفراد أسر بكفيا الذين تمكنوا من النجاة عام 5031، بالعودة الى ديار أجدادهم ابتداء من العام 0451.

النزوح من جاج الى بكفيا

وكان النصارى يومئذ مقيمين في بلاد جبيل والشمال. «ولقد غضب مرة الأمير منصور العسافي التركماني على الشيعيين النازلين في مقاطعته لأنهم تآمروا على قتله، فضربهم ضربة قاضية، وعزز الأمن في بلاده، ثم ارتأى أن يقرّب اليه المسيحيين ويحسن معاملتهم ليتقوى بهم ويناصروه على اعدائه حين الاقتضاء، فجاء اليه أولاد الجميل وقابلوه في غزير مركز اقامته، وكان مجيئهم من قرية جاج في خلال سنة 5451. وحينما امتثلوا لديه أكرمهم وأقطعهم على بكفيا وضواحيها الشمالية وأوفدهم فوراً اليها ليحيوا أراضيها ويجددوا حضارتها التي كان جيش المماليك قد قضى عليها في غرة القرن الرابع عشر، فأتوا وبعض رفاق لهم حاملين كما يروى عنهم صورة القديس عبدا على اكتافهم، واستحسنوا أن ينزلوا في مكان بلدتهم الحالي العالي عوضاً عن المكان القديم المنخفض، ولا يزالون فيه الى يومنا هذا».

وفي تفاصيل كيفية وظروف مجيء آل الجميّل الى بكفيا انه «حين عاد غبريل حنا الخوري الجاجي من غزير الى قريته جاج يخبر أهلها بما يجده النصارى النازحين اليها من الرعاية والمساعدة والحماية من حاكم البلاد الكسروانية الأمير منصور العسّافي، نزح معه ثلاثة من بني الجميّل الى غزير سنة 5451 يحمل أحدهم صورة مار عبدا شفيع عائلته، فلما امتثلوا بحضرة الأمير منصور خصّهم باقطاع قسم من البقعة لهم ولسلالتهم ولمن يلحق بهم من الاسر المسيحية ليعيدوا حضارته: وهو بكفيا وأراضي نواحيها الشمالية».

وقد جعل الأمير منصور الفاصل بين اقطاع غبريل حنا الخوري واقطاع ال الجيمل، «مجرى الماء الشتوي جنوباً المعروف الآن بساقية المسك، وشمالاً مجرى الماء الشتوي بين وادي شاهين وقرية كريم التين شرقي بيت شباب.

وكان قد سبق ذلك «ان بعضاً من أحفاد أسرتي نوح وسقسوق، اللتين فرّ ابناؤهما البكفاويون الى حيث وجدوا مأمناً من مخرّبي بلدتهم، الى زمن أمنت فيه هذه الديار من عوادي الايام وظلم الحكام. وقد عرف احفاد الاحفاد من هاتين الأسرتين في مهاجرهم ان الامان مخيّم في البلاد الكسروانية، وما يجده النصارى النازحين اليها في عهد اميرها منصور العسافي، ذكروا مسقط رؤوس اجدادهم، وجاؤوا مع نفر من بني حبقوق كالمتجسسين والباحثين عن خبايا كنوز جدودهم، في الربع الأول من الجيل السادس عشر، فأقام أبناء حبقوق في خرابات قرية ذكريت، وأبناء نوح وسقسوق في خرابات بكفيا. ولما لم يجدوا مطارداً ولا مخاصماً، وقد خلت البقعة من ساكن او قادم اليها، اتخذوا لهم مساكن محجوبة عن الرقابة والرصد والسعاية بهم، منقبين في خراباتها، فاذا بأناس من أسرة جميل الجاجية قد أقبلت تعيد حضارة البلدة الدارسة. ولم يبق من أسرة نوح الا نفر في القطر المصري في هذا العهد (0391)».

تحالفات عائلية

ولقد ربطت آل الجميل، مع العائلات التي جاءت معها او التي امّت بكفيا ومنطقتها في ما بعد، أفضل العلاقات، وقام في ما بين هؤلاء العائدين تعاون وتعاضد على إعادة العمران «وكان قد أتى معهم الى المحيدثة بنو المعلوف، وقد تقاربت الأسرتان من بعضهما، اذ اقترن أحد أفراد أسرة المعلوف (المعروفة اليوم بأسرة الكلنك) بشقيقة الخوري انطون الجميل ورزق منها ولدان سيم احدهما كاهناً».

وفي العام 5451، «سار الشدياق سركيس بن الخازن (جدّ الخازنيين الى قرية البوار ونسخ هناك انجيلاً وريش قربان بالخط الكرشوني، ثم صعد الى بلونة في أرض عجلتون». وذلك في الوقت نفسه الذي ذهب فيه اولاد الجميل الى قاطع بكفيا. وبيت كميد الى قاطع غزير. وذكر ان آل الجميل «كأنهم اتحدوا وأبناء الخازن وكميد ـ الذين رافقوهم الى كسروان في وقت واحد، كما يفهم من قول العلاّمة الدويهي في الصفحة 641 ـ واتفقوا واياهم على شقّ الطريق تسهيلاً لانتقال النصارى من الشمال الى قلب لبنان...»

وذكر ايضاً أنه «ما كاد الجميليون ورفاقهم يثبتون أقدامهم في بكفيا، حتى انضمّ اليهم من كانوا قد اقاموا خفية في بقايا بعض الخرائب المجاورة لبلدتهم، وتبعهم بعد ذلك كثيرون من أبناء الأسر...». فجاء في تفاصيل اخرى، «وما لبث كثيرون ان تبعوا متهافتين من انحاء الشمال الى بكفيا، ومنهم بيت الخرّاط. وكاهن منهم عني هو أيضاً في آخر ذلك القرن (السادس عشر) بإقامة كنيسة مار ميخائيل. وهذه ايضاً تمّ تجديدها، بعيد انجاز الكنيسة السابقة، بمسعى الفاضل موسى اغسطين الخرّاط والخوري الغيور بولس الخرّاط.. وهذه الأعمال وغيرها تمت بالاشتراك بين بيت الجميّل وسائر العيال أو بعضها. فكان الامتزاج والألفة، حتى ان آل الجميّل لما استلموا قديماً ادارة دور الامراء اللمعيين (كواخي) في المتين، اخذوا معهم فريقاً من بيت الخرّاط، وبيت داغر البكفاويين. وبهذين الاسمين عينهما هم الآن يؤلفون أسرتين عديدتين في المتين والمروج وبنابيل والضواحي. ومنذ الأصل تسلم أسرتا الراعي والسبعلي أملاك العيلة الجميلية في مزارع بكفيا وتناقلها بنوهم من بين اصحابها لاستثمارها بالشركة الى جيلنا الحاضر (8391)».

مكانة العائلة و«بيتها المفتوح»

تعود مشيخة هذه الأسرة العريقة الى القرن السابع عشر على الأرجح، وقد رسخها في كل حال، الأمير حيدر الشهابي في مطلع القرن الثامن عشر، وكان لهم على مدى أربعة قرون ادوار بارزة ومواقع متقدمة. فقد ذكر «ان الجميليين بكدهم وثباتهم وعددهم ونبوغ بعض أفرادهم، مع معاضدة أهل موطنهم، بلغوا مقاماً خاصاً لامعاً في الوطن. فلقبوا مشايخ من زمن بعيد لما ظهر منهم من رجال في الإدارة والرأي والكرم والفروسية والغيرة والبساطة. ومنزولهم لم يزل موجوداً الى الساعة (8391) وقد ظل مفتوحاً طالما لم يكن فنادق وخانات، ولم تبطل فيه الضيافة المجانية الا بعد ان نزعت تركيا بالقوة من عيال لبنان الكبيرة كل املاكها في البقاع، تلك الاملاك الدارة عليها الخيرات الوافرة وأنواع الرزق. وكان معظم اعتماد أبناء الجميّل في نفقاتهم، على هذه المقتنيات القائمة بقرب زحلة. والأتراك فعلوا ذلك انتقاماً لانضمام هذه الاسر الى المصريين في حرب ابراهيم باشا لمئة سنة خلت (0481)، على ما أوضحه عبدالله باشا صفير في مقال خطير بالإفرنسية. وفي ظروف وتفاصيل هذا الاغتصاب عثرنا على ما هو جدير بالذكر والشكر: وهو أمانة فلاحي تلك الأراضي، فانهم ما فتئوا يهرّبون من الحاصلات ما أمكنهم «لمعلّميهم». وبجانب المنزول جعلت الأسرة ساحتين، الأولى: «ساحة الجوزة»، واليوم (8391)، صارت جنائن، ولم تزل الثانية المسماة «المقعد» لترويض الخيل ولعب الاولاد والحفلات الجمهورية».

وقد شهد المؤرخون والباحثون لاسرة الجميل بالمزايا الحميدة والمستوى النبيل بين عائلات لبنان العريقة، «فلم يذكر عنهم تطرّف في القوة، مما يعاب على «أصحاب الاقطاعات»، فأفسد الكثير من أعمالهم، وذهب بجانب من فضلهم في خدمة البلاد وحماية الوطن والدين. وعرف عنهم في نصرتهم لأعوانهم، الاخلاص حتى غاية التضحية».

والجميل لغة واصطلاحاً إحدى قبائل العرب وهو لقب أُطلق على الرجل الذي يتميز بالجمال.